الحسابات الخاطئة

<a href="mailto:[email protected]">nsabhan@hotmail.com</a>

بعد انتهاء الأسبوع الأول الذي أفرغت فيه القوة العسكرية الإسرائيلية كل ما في جعبتها من النار الحارقة على لبنان دون أن تتوقف صواريخ المقاومة من ضرب الداخل الصهيوني ولا حدث ذلك الانقسام اللبناني الداخلي المأمول من قبل العدو تحت ذريعة الخسائر الجسيمة وتحميل مسؤوليتها للمقاومة، بعد ذلك الأسبوع تكشفت أمام حكومة العدو وقائع لم تكن في حسبانها، وأبرزها أن هذه المواجهة تختلف عن المواجهات السابقة نوعا وتكتيكا.
لقد كان وما زال الخطأ الأكبر الذي وقع فيه العدو الإسرائيلي، وحسنا فعل، في هذه الحرب التي شنها على لبنان، أنه بنى هذه المواجهة على حسابات خاطئة قائمة على مقاييس الماضي وليس الحاضر، ومن أهم هذه الحسابات الخاطئة عدم إدراكه أن هذه المواجهة تجري مع حركة مقاومة لبنانية ذات جذور شعبية خاصة في الجنوب اللبناني الذي يعتبر الساحة الرئيسية للمعركة، وليست مواجهة مع منظمات فلسطينية طارئة وعابرة ولا تملك ذلك العمق الشعبي وإن كانت تحظى بالتعاطف كما كان عليه الحال في عام 1982، كما أن أداء المقاومة القتالي عكس إعدادا جيدا لكوادرها جعلها قادرة على امتصاص الضربات دون أن تؤثر في بنيتها وقدرتها القتالية، بل تملكها لرد قوي كما في إطلاق الصواريخ في العمق الإسرائيلي، وتكتيك المواجهة القتالية على الأرض ابتداء من مارون الرأس، وأخطاء العدو في حساباته أدت به لأن يوقع نفسه في مأزق حقيقي عسكري وسياسي، وكانت بداية هذا المأزق من تحديده المسبق والمتعجل لأهداف ذات سقف عال أعلنها منذ اليوم الأول، وحددها كشروط لإنهاء عدوانه والتي ترتكز على ثلاثة مطالب، وهي: أولا، إعادة أسيريه دون مبادلة مع المخطوفين اللبنانيين، وثانيا، نزع سلاح حزب الله، وثالثا، إبعاد المقاومة لما بعد منطقة الليطاني، ومعظم هذه الشروط، وكما هو واضح، ليست إلا تطبيقا للقرار الدولي 1559، غير المتوافق مع آلية تطبيقه لبنانيا أصلا، كما أنها شروط منتصر في الحرب وليست مطالب تفاوضية، وحيث كانت الحرب في بدايتها حين اعتقد العدو أن قوته العسكرية كفيلة بإجبار اللبنانيين على القبول بها تحت وابل النار المدمرة، إلا أنه ومع مرور أيام المواجهة تكشفت الحقائق المرة التي تشير ليس فقط لصعوبة بل إلى استحالة إمكانية تحقيق تلك الأهداف المعلنة بالبساطة التي اعتقدها العدو ارتكازا على قوته العسكرية دون حساب لقوة رد المقاومة وقدرتها على الصمود، كما اتضح فيما بعد، بل أيضا لاستعار سخونة المواجهة وعدم قدرة القوة العسكرية للعدو بكل تفوقها النوعي والناري على حصر المواجهة خارج الأرض المحتلة مع استمرار إطلاق الصواريخ على شمال فلسطين المحتلة، ومن هذه الوقائع الجديدة على أرض المواجهة بدأ مأزق العدو يتسع وحرجه أمام الرأي العام الإسرائيلي يتجسد في عجزه عن حسم المواجهة كما وعد خلال أيام ثم أسابيع، وأمام هذا الوضع اندفع العدو بكل جنون العدوان يصب جام غضبه على الحياة المدنية اللبنانية في عملية عقاب جماعي حتى وصل به الأمر إلى ارتكاب مجازر دموية، كما حدث في "مروحين" و"قانا"، بل ضد جنود القوات الدولية حين قتل أربعة منهم وهو ما يدلل على ارتباك العدو وفقدانه السيطرة في هذه المواجهة.
إذا كان مأزق العدو الأول هو في إخفاقه من حسم المواجهة حسبما يريد لاختلاف الحسابات والمعطيات السياسية والعسكرية، فإن الجانب الآخر من ذلك الإخفاق هو في إسقاط نظرية العدو العسكرية التي ترتكز وبشكل كلي وكامل على نقل المعركة دوما خارج حدوده، بحيث يبقى الداخل الإسرائيلي في مأمن من آثار الحرب، ففي هذه المواجهة وبخلاف المواجهات العربية ـ الإسرائيلية السابقة، بما فيها مع الجيوش العربية النظامية، استطاعت المقاومة من توجيه ضربات يومية بالصواريخ للداخل الإسرائيلي وبشكل مستمر طوال أيام المواجهة، صحيح أن حجم تدمير صواريخ المقاومة لا يصل لحجم قدرة الآلة العسكرية التدميرية للعدو، إلا أن الجانب المعنوي والآثار الاقتصادية لبقاء ما يقارب من مليوني مستوطن داخل الملاجئ لأسابيع وخسائر اقتصادية فاقت ثلاثة مليارات دولار دون التكلفة العسكرية، كلها أحدثت هزة كبرى داخل مجتمع العدو الذي لم يتعود على مثل هذه الأجواء، وهو ما يجعل أي محلل يدرك أن ما حققته المقاومة حتى الآن يعتبر، مع فارق ميزان القوة العسكرية، انتصارا نوعيا ومعنويا كبيرين، ويكفي المقاومة أنها حققت وأنجزت ما لم تحققه الجيوش العربية النظامية حيث وصلت صواريخها للداخل الإسرائيلي واستمرت طوال المواجهة تثير الرعب داخل العدو وتسبب له خسائر كبيرة، وهو ما أثبت أنه في صراع تختل فيه موازين القوة فليس أمام الأضعف إلا أسلوب المقاومة وحده.
إلى أين ستنتهي الأحداث .. هذا هو السؤال الجوهري، فأكبر الظن أنه سوف تتم معالجة حسابات العدو الخاطئة عسكريا من خلال العمل الدبلوماسي، حيث لا تكون المقاومة مؤثرة فيه، وقد بدأت بوادر تحركات على صعيد مجلس الأمن بإعداد مشاريع تهدف إلى إعطاء إسرائيل بالسياسة بما لم تستطع تحقيقه بآلتها العسكرية، وهذا واضح من التحرك الأمريكي المحموم لإقناع الجميع باتفاق لوقف إطلاق النار ضمن شروط ملزمة للبنان بأكثر مما هو القرار 1559، تتخذ وفق البند السابع السيئ الصيت، فكما قلنا في مقال الأسبوع الماضي، فإن هناك توزيع أدوار بين دولة العدو وبين الولايات المتحدة كشفته تحركات وزيرة الخارجية الأمريكية وتصريحاتها العديدة، والمهم في هذا السياق، هو هل فرض حل سياسي بالصورة التي تريده واشنطن سيحل المشكلة أم سيكون بداية مخاض لمشاكل أكبر وأخطر وأوسع مدى؟ هذا هو السؤال.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي