هل لدينا "تضخم" حقيقي أم أنه ارتفاع "عابر" للأسعار!
في الأسبوعين الأخيرين كان هناك تصريحان متناقضان إلى حد كبير، الأول لوزير التجارة والصناعة والثاني لمحافظ مؤسسة النقد العربي السعودي "ساما"، حول ارتفاع الأسعار في السعودية، فالأول يدعو فيه وزير التجارة والصناعة المواطنين إلى أن يعتادوا على هذا الارتفاع على خلفية النمو الاقتصادي العالمي وانتعاش الأسواق الدولية. في حين أن محافظ "ساما"، يؤكد أن التضخم "تحت السيطرة"!
وأود التأكيد هنا على مسألة مهمة قبل الدخول في موضوع الأسعار، وهو أننا في السعودية، نعيش حالة غريبة بسبب تصريحات المسؤولين، خاصة التي تمس القضايا الاقتصادية أو الاجتماعية، فإما أن تجد مسؤولاً لا يتحدث ولا يقول ويحاول أن يبتعد عن ضجيج الإعلام، وإما أن تجد تصريحات متناقضة مع الواقع، لذلك تظل الحقيقة غائبة، و(الحقيقة) غاية المؤمن مهما كانت الأسباب، وفي مقالتي لن أدخل في تفاصيل هذه القضية تحديداً حتى لا أقع مثلهم في المحظور وأقيم تصريحات المسؤولين.
وأعود إلى مشكلة "ارتفاع الأسعار" في الأسواق لأن ظاهرة ارتفاع الأسعار في أي بلد لم تعد "حواراً "اقتصادياً" فقط، بل اجتماعي من الدرجة الأولى، وليس بغريب أبداً أن يندفع عدد من الكتاب الاختصاصيين وغير الاختصاصيين للجدل والحديث، باعتبارها "هم المواطن". والمثير أن أغلب المقالات والتحليلات الإخبارية التي قرأتها، لم تعرض أبداً مقارنة سعرية واضحة، حتى يتمكن القارئ أو المراقب من معرفة أي سلعة شهدت صعودا جنونيا في الأسعار، أم أن هناك صعودا جماعيا للأسعار في جميع السلع والخدمات، ما يعني أننا دخلنا فعلياً في مرحلة "التضخم الحقيقي"!
والواضح أن الاقتصاد السعودي تعرض إلى ضغوط تضخمية في عام 2006، بسبب عوامل عدة، وفي مقدمها الرقم القياسي العام لتكاليف المعيشة، والنمو القياسي والسريع، وتأثيرات الإنفاق الحكومي، لكن كما هو معروف، فإن الرقم القياسي لتكاليف المعيشة لا يعد مؤشراً لقياس نمو التضخم فحسب، بل مؤشر لصعود مستويات الطلب الإجمالي مقارنة بالعرض الإجمالي من السلع والخدمات، وهو يفسر ارتفاع أو انخفاض الأرقام القياسية لحساب معدلات التضخم سواء أكان ذلك على مستوى إجمالي المؤشر العام أو على المجموعات السلعية والخدمية، مع ملاحظة أن هناك عوامل أخرى تؤثر في ذلك الرقم، مثل علاقة الإنفاق العام بإيرادات الدولة ومن ثم عجز أو فائض الموازنة، إضافة إلى الاتجاهات التضخمية أو الانكماشية التي يتعرض لها.
بشكل عام، يعبر الرقم القياسي لتكاليف المعيشة عن نسبة ارتفاع أو هبوط المستوى العام للأسعار في الدول، وهو يستخدم على نطاق واسع لقياس التضخم في السعودية، ويحسب طبقاً لتكاليف سلة من السلع والخدمات يتم شراؤها من قبل الأسر متوسطة الدخول شهرياً، ويعتمد اختيار السلع والخدمات في تلك السلة على العادات الاستهلاكية الشائعة وأحياناً على مسوح إحصائية، وتعد تلك السلة ومكوناتها وأوزانها ثابتة في البلاد منذ عام 1988، وعلى افتراض أن المؤشر يبلغ فيه 100 نقطة، وقد تجري الحكومة تعديلات عليها في فترات زمنية تراوح بين خمسة إلى عشرة أعوام.
إن "التضخم" من أكبر الاصطلاحات الاقتصادية شيوعاً، ولا يوجد اتفاق واضح بشأن تعريفه، فهو يستخدم لوصف حالات مختلفة يتعرض لها اقتصاد أي دولة، وهي تحديداً أربعة: الارتفاع المفرط في المستوى العام للأسعار المعروف بـ "تضخم الأسعار"، وارتفاع الدخول النقدية أو عنصر من عناصر الدخل النقدي مثل الأجور أو الأرباح المعروف بـ "تضخم الدخل"، وارتفاع تكلفة الإنتاج المعروف بـ "تضخم التكاليف"، والإفراط في خلق الأرصدة النقدية المعروف بـ "التضخم النقدي".
ويعني ذلك، أنه ليس من الضروري أن تتحرك هذه الظواهر المختلفة في اتجاه واحد وفي وقت واحد، إذ من الممكن حدوث ارتفاع في الأسعار دون أن يصحبه ارتفاع في الدخل النقدي، كما أنه من الممكن أن يحدث ارتفاع في التكاليف دون أن يصحبه ارتفاع في الأرباح، ومن المحتمل أن يحدث إفراط في خلق النقود دون أن يصحبه ارتفاع في الأسعار أو الدخول النقدية، وبعبارة أخرى فإن الظواهر المختلفة التي يمكن أن يطلق على كل منها "التضخم" هي ظواهر مستقلة عن بعضها بعضاً إلى حد ما، وهذا الاستقلال هو الذي يثير الإرباك في تحديد مفهوم التضخم.
وتبعاً لذلك، وفي حالة الاقتصاد السعودي تحديداً، فإن "تضخم الأسعار"، ربما لا يكون وارداً بشكل دقيق، لعوامل رئيسة في مقدمها: استمرار النمو الاقتصادي، وتذبذب متوسطات الرقم القياسي العام بشكل عام، وهما عاملان مؤثران في لجم ارتفاع معدلات التضخم. فبالنسبة لتراجع الرقم القياسي العام، توضح مصلحة الإحصاءات العامة، أنه سجل تذبذباً تصاعدياً ملحوظاً منذ بداية عام 2005، ففي كانون الثاني (يناير) سجل 99.3 نقطة إلى أن وصل في تشرين الأول (أكتوبر) إلى 100.2 نقطة وأقفل في نهاية العام عند مستوى 100.4 نقطة. وهذا الارتفاع مبرر إلى حد كبير، نتيجة ارتفاع الطلب على المجموعة السلعية التي يشملها الرقم القياسي، مثل: الملابس الجاهزة، الأحذية، الأقمشة، المجوهرات، الترفيه، والأثاث المنزلي، خصوصاً إذا علمنا تأثيرات الزيادات الجديدة في رواتب موظفي الدولة على الاستهلاك، إذ صعد الطلب بشكل قياسي على مجموعات السلع لتزامنه مع شهر رمضان، الذي تقفز فيه أرقام المبيعات مقارنة بفترة ركود طويلة نسبياً.
وحينما نطبق الحالة السعودية على تفسير التضخم بشكله العام، فإن وجود فائض الطلب يستند إلى المبادئ البسيطة التي تتضمنها قوانين العرض والطلب، فهذه القوانين تقرر أنه بالنسبة لكل سلعة على حدة، يتحدد السعر عندما يتعادل الطلب مع العرض، وإذا حدث إفراط في الطلب تنشأ فجوة بين الطلب والعرض، وتؤدي هذه الفجوة إلى رفع السعر، وتضييق الفجوة مع كل ارتفاع في السعر حتى تزول تماماً وعندئذ يستقر السعر، ومعنى ذلك أنه إذا حدث إفراط في الطلب على أية سلعة، فإن التفاعل بين العرض والطلب كفيل بعلاج هذا الإفراط عن طريق ارتفاع الأسعار.
ختاماً هذه القاعدة البسيطة هي التي تفسر ديناميكية تكوين السعر في سوق سلعة معينة، ويمكن تعميمها على مجموعة أسواق السلع والخدمات التي يتعامل فيها المجتمع، فكما أن إفراط الطلب على سلعة واحدة يؤدي إلى رفع سعرها، فإن إفراط الطلب على جميع السلع والخدمات أو الجزء الأكبر منها يؤدي إلى ارتفاع المستوى العام للأسعار، وهذه هي حالة التضخم الحقيقية الموجودة لدينا في السعودية أو بمعني أدق الأسعار لدينا ( ليست تحت السيطرة ).