سوقنا المالية والثقب الأسود

[email protected]

الإعلانات المتكررة من قبل هيئة السوق المالية عن نتائج استفساراتها من الشركات التي شهدت أسعار أسهمها ارتفاعات غير منطقية ولا مبررة تمثل درجة غير مقبولة من عدم الجدية في التعامل مع التلاعب في السوق، فالهيئة تعلم قبل غيرها عدم وجود أي أخبار إيجابية لدى تلك الشركات تبرر ارتفاعات أسهمها المذهلة، ما يجعل تكرار مثل هذه الاستفسارات غير المجدية ولا المؤثرة، لا يعدو كونه مضيعة للوقت وذرا للرماد في العيون لا أكثر، ويظهر إصرار عجيب من قبل الهيئة على تجنب القيام بالعمل الشاق المجدي فعلا، وهو ملاحقة المتلاعبين وإنزال أقصى العقوبة بهم، ما يردع غيرهم عن الانجراف وراء هذه الممارسات التي تحقق مكاسب ضخمة للمتلاعبين ولا ثمن يدفعونه لقاءها، طالما أن كل ما ستفعله الهيئة هو اكتشاف ما يعرفه حتى أجهل متداول في السوق، وهو عدم وجود أخبار إيجابية تبرر ارتفاع أسهم تلك الشركات، ولم يحدث، حتى ولو مرة واحدة، أن أكدت الهيئة من خلال استفساراتها العديدة وجود أخبار إيجابية بررت أي ارتفاع غير مبرر لوحظ.
والمستغرب أنه رغم كل ما مر بنا وتعرض له اقتصادنا من مشكلات خلال السنوات الأربع الماضية، خصوصا ما تعرضت له سوقنا المالية من تقلبات حادة أودت بمدخرات معظم المواطنين ونقلتهم إلى قائمة المعوزين والمدينين، ما زلنا نتعامل مع هذه السوق كما لو أن شيئا لم يحدث. فنوسع ونعمق السوق من خلال شركات متواضعة الحجم رغم أننا لا نملك أي قدرة على وقف التلاعب في السوق الذي يستهدف هذا النوع من الشركات بالذات، وبدلا من وجود قطاعين في السوق يسرح ويمرح بهما المتلاعبون أضفنا قطاعا ثالثا لهما وهو التأمين. وعوضا عن استعادة ثقة المستثمرين في السوق زدنا قلق المتداولين من خطورة ما يجري، من خلال إدراجات مبالغ في علاوات إصدارها وتقييمها، ما أفقد السوق كل قدرة على استقطاب سيولة جديدة تساعد على استقراره وتعافيه، في ظل الاكتتابات العديدة التي تتوالى عليه مستنزفة سيولته، فمعدلات نمو السيولة المحلية العالية جدا، مع كل ما تحمله من سلبيات على اقتصادنا الوطني، كانت على الأقل ستساعد على استقرار السوق وتعافيها، لو استطاعت هذه السوق استقطابها من خلال استعادتها ثقة المستثمرين من جديد.
لكل ذلك فقد تحولت سوقنا المالية إلى ثقب أسود يبتلع مدخرات المستثمرين في كل مرة يعتقدون أنهم أمام فرصة لتعويض خسائرهم، والثقب الأسود واحد من أعجب ظواهر الكون، وهو عبارة عن قوة جذب هائلة تمتص المجرات الهائلة الضخمة بكل ما فيها من نجوم وكواكب بل حتى الضوء لتتلاشى جميعا في هذا الثقب. وفي سوقنا المالية أكثر سؤال يرد على لسان المتعاملين هو حيرتهم أين ذهبت كل تلك الأموال التي كانت في السوق؟ ومصدر حيرتهم هو أنهم يعتقدون أن كل خسارة يقابلها مكسب، وعندما يتلفتون حولهم ولا يرون إلا من خسر تسيطر عليهم حالة فضول لمعرفة من الذي كسب في مواجهة خسائرهم. بينما الواقع أن سوقنا المالية، بنزيفها المستمر الذي لا قاع له، تحولت إلى ثقب أسود، وفيما عدا بعض المتلاعبين والمحتالين، فإن كل من لم يغادرها في الوقت المناسب تبخرت مدخراته، ونجا منها فقط من خرج قبل تحولها إلى ثقب أسود يبتلع المدخرات ويطرد المستثمرين.
إن أهمية السوق المالية تنبع من كونها أكفأ حلقة وصل بين المستثمرين والمدخرين، تخلق أوعية استثمارية جاذبة للمدخرين وتوفر تمويلا ميسرا للمشروعات. إلا أن كفاءة أدائها لهذا الدور الحيوي مرهونة باستقرارها ومصداقية تعاملاتها، فدون ذلك يصبح المتعاملون غير مكترثين بمستقبل السوق في المدى الطويل وغير مبالين بالتحليل الأساسي وحقيقة الأداء المالي للشركات المدرجة، وكل ما يهمهم عدد الأسهم المصدرة ونسبة ما يتداول منها فقط، فهذا ما سيحدد مستقبل سعرها في السوق وليس حقيقة أدائها المالي. لذا يجب دوما فرض رقابة صارمة على تعاملات السوق وسلوكيات المتداولين، وتهيئة الظروف المناسبة التي تمنع السوق من الانجراف في موجات ارتفاع وتراجع حادة مبالغ فيها، وألا يكون لدى المحتالين في السوق حالة من الاطمئنان أن يد القانون لن تطولهم ما يشجع على تفشي الممارسات غير القانونية وغير الأخلاقية، وهذا بالضبط ما سيحدث، إذا كان كل ما ستقوم به الهيئة هو الاستفسار من الشركة المتلاعب بأسهمها حول وجود أخبار إيجابية لديها، ليواصل بعد ذلك المتلاعبون في السوق تنفيذ مهمتهم التي نذروا أنفسهم لها، وهي مهمة تدمير ما بقي للسوق من مصداقية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي