كيف نفهم "مُجتمع المعرفة"
تحفل صحافتنا بأحاديث ومرئيات مُتنوعة صادرة عن شخصيات ومُؤسسات مُختلفة حول أهمية التحول إلى "مُجتمع المعرفة" وبناء "اقتصاد المعرفة"، وحول ارتباط التنمية بالمعرفة وضرورة تفعيل النشاطات المعرفية في المُجتمع والعمل على الاستفادة منها اقتصادياً وإنسانياً على أفضل وجه مُمكن. والحقيقة أن الاهتمام بهذا الموضوع ليس اهتماماً محلياً فقط، بل هو اهتمام عالمي أيضاً. فالمُؤتمرات الدولية، مثل مُؤتمر قمة الألفية الذي عُقد عام 2000، تُؤكد المعرفة كوسيلة للتطور، والمجموعات الدولية كالاتحاد الأوروبي تضع خططاً مُستقبلية لتفعيل العمل المعرفي في دولها، كما أن جميع الدول المُتقدمة والطامحة إلى التقدم تسير في ذات الاتجاه.
وأمام تكاثف موضوعات مُجتمع المعرفة واقتصاد المعرفة وتزاحم الأفكار والمرئيات بشأنها، قد يكون من المناسب العودة إلى جوهر هذه الموضوعات والعمل على تحديد المقصود بمُجتمع المعرفة واقتصاد المعرفة والأفكار الأساسية ذات العلاقة. والغاية من ذلك هي بيان الأسس التي تستند إليها هذه الموضوعات بما يُعزز ليس فقط استيعابها، بل التهيئة لمُشاركة الجميع في الحوار بشأنها والتوجه نحو بناء مُجتمع معرفي قادر على العطاء في المملكة.
إن نظرة إلى المعرفة تُرينا أن هذه المعرفة ليست صورة ثابتة، بل هي صورة مُتحركة. والتحرك هنا لا يقتصر على تراكم المعرفة وزيادتها، بل على طبيعة المعرفة وفوائدها ومدى القدرة على استخدامها والاستفادة منها. والمعرفة تبقى أسيرة الورق أو التخزين الإلكتروني (بلغة العصر)، أو حتى معامل البحث والمُختبرات، إلى أن تجد طريقها إلى التطبيق والتوظيف، عندها تُصبح حية ومفيدة لأصحابها. فكل بحث علمي أو إبداع أو ابتكار معرفي، وكُل منهج دراسي، يبقيان جامدين إلى أن يصلا إلى التطبيق أو التوظيف الذي يستطيع استخلاص الفوائد منهما. وعلى ذلك، فإن جوهر مُجتمع المعرفة هو "تفعيل" النشاطات المعرفية والحرص على "تكاملها" بمعنى الاهتمام بنشر المعرفة المفيدة وتحفيز ابتكار المزيد منها وتجديدها، مع العمل على توظيفها والاستفادة منها على أفضل وجه مُمكن.
في إطار ما سبق يُمكن الاستفادة من المعرفة العلمية والتقنية في تصنيع مُنتجات جديدة أو مُتجددة وفي تقديم خدمات جديدة أو مُتجددة أيضاً. وينتج عن ذلك "توليد للثروة" ناتج عن تسويق هذه المُنتجات والخدمات، وتشغيل "لليد العاملة" ناتج عن الحاجة إلى تصنيع هذه المُنتجات وتقديم تلك الخدمات. وهذا هو الشكل العام لما يُمكن أن ندعوه باقتصاد المعرفة. لكن هناك في ذات الوقت مُلاحظة أخرى مهمة بشأن هذا الاقتصاد. وترتبط هذه المُلاحظة بعدد من الحقول المعرفية المُتقدمة مثل حقول تقنيات المعلومات وتقنيات النانو وغيرها. فهذه الحقول تُحقق تقدماً معرفياً مُطرداً، وهي في ذلك تُقدم مُنتجات جديدة أو مُتجددة خلال فترات قصيرة مُتعاقبة تسمح بنمو اقتصادي مُتميز. وهُنا يبرز الشكل الخاص لاقتصاد المعرفة الذي يرتبط بالتقنيات المُتقدمة والمُتجددة الأكثر قدرة على الإسهام في النمو الاقتصادي والحفاظ على استمراره.
ولا بُد هنا من الإشارة إلى أن مُجتمع المعرفة ليس اقتصاداً فقط. فتطبيق المعرفة وتوظيفها يُمكن أن يكون اجتماعياً وإنسانياً أيضاً. فعلى سبيل المثال يُؤدي توظيف المعرفة بمضار التدخين إلى الامتناع عنه ويسهم ذلك في صحة الإنسان وفي عطاء المُجتمع، وكذلك الأمر بالنسبة للطعام ومضار وفوائد الأغذية المُختلفة، وبالنسبة لقواعد المرور وسلامة الطرق، وغير ذلك من قضايا تهم الإنسان والمُجتمع.
وفي الختام، هُناك مُلاحظة مهمة يجب أن نهتم بها، وهي أن تجدد المعرفة وحركتها الدائمة تجعل من مُجتمع المعرفة هدفاً مُتحركاً، ما إن نصل إليه حتى نجده قد تقدم إلى الأمام بالمزيد من المعرفة والمزيد من الفرص المُتاحة. وعلى ذلك، فإن بناء مُجتمع المعرفة على المدى البعيد يحتاج إلى بناء الإنسان القادر على المتابعة المعرفية والالتزام المعرفي والإبداع والابتكار والمنافسة، فهو الضمان للتجدد والعطاء المتواصل، بإذن الله.