تحرير الاقتصاد الوطني ... الأمن الاجتماعي أولاً!!
بين الفينة والأُخرى، تتعالى الأصوات مُطالبةً بتحرير بعض السلع كي تتحدد أسعارها من خلال قوى السوق، والحُجج التي يسوقها من يُروج لها لاشك أنها صحيحة ومبنية على منظور اقتصادي سليم، وهو أن ترشيد استهلاك سلعة "ما" يتم من خلال تحرير سعرِها وإلغاء الدعم الحكومي لها بحيث يتم القضاء على الهدر النسبي الناشئ من فُرط الاستهلاك نتيجةً لرخص السعر. مثل هذه الطروحات القصد منها علاج خلل ناشئ من عدم التوازن ما بين العرض والطلب وعلاجه يعتمد على تحرير الأسعار، لكن لابد من وضع تصورات خاصة لكل مجتمع ودون قياسه على غيره من المُجتمعات، وبما يُناسبه من سياسات قائمة على افتراضات واقعية وليست مثالية كما هي في النظريات الاقتصادية الصِرفة، مع الأخذ في الاعتبار عوامل عدة سياسية، اقتصادية، ثقافية، اجتماعية، وبيئية.. إلخ. وكما هو معروف في أدبيات الفكر الاقتصادي، فإن تطور ونمو نظام السوق لم يكن بشكل خطوط مستقيمة إنما كان على شكل تموجات ما يعني أنه ليس خالياً من النقائص وأن تطبيقه حرفياً بدون مراعاة ظروف المجتمع والمكان لن يُحقق كل الأماني، ففي القرن التاسع عشر وعلى سبيل المثال، كانت هناك مشكلة الفائض في الإنتاج وضعف الاستهلاك، وكذلك ظهور الاحتكارات ما أضعف التحليل الفكري لتفسير سير وحركة الرأسمالية خاصة بعد إحدى أهم الأزمات الاقتصادية وهي الكساد الكبير. فقد كشفت الكينزية على سبيل المثال، هشاشة أفكار الحرية الاقتصادية والتبجيلات التي بينها الكلاسيك لهذا النظام حيث يشوبها الكثير من الشوائب. وعلى هذا فإن الاعتقاد التام بأن نظام السوق سيؤدي إلى الاستخدام الأمثل للموارد المُتاحة على إطلاقه ليس على درجة كافية من الصحة، فهناك تعطيل للموارد نتيجة البطالة، كما أن هناك تخصيصا للموارد بشكل كبير من أجل زيادة الطلب الكلي وليس الإنتاج مقابل تمكين المستهلكين من إنفاق جزء من دخولهم المُقبلة في الوقت الحاضر مقابل فوائد محددة وكذلك الموارد الهائلة المُخصصة للدعاية والإعلان، ولا يغيب عن الأذهان الأزمات الاقتصادية المُتكررة لهذا النظام. لقد أدى الفهم الخاطئ إلى إمكانية تطبيق ما هو قائم في الدول المُتقدمة من أنظمة وقوانين وتشريعات إلى بروز الازدواجية الاجتماعية بشكل واضح، فهي تعبير عن الحالة التي يعيشها المجتمع بسبب وجود تعارض ما بين النظام الاجتماعي السائد، الأعراف، التقاليد المُسيطرة وبين النظام الاجتماعي المُستورد والذي هو تعبير عن نظام اقتصادي متقدم ومعاصر، فكل نظام اجتماعي يمثل فكراً اقتصادياً وعليه فإن الفكر الاقتصادي السائد غربي ويتعارض مع الكثير من المفاهيم والأعراف الاجتماعية ويخلق نوعاً من الشد والجذب مابين النظامين الاقتصادي والاجتماعي وينعكس سلباً على أداء الوحدات الاقتصادية ومن بعد على قدرتها على تحقيق الأهداف المرسومة. من الممكن النظر للتحرير من زوايا عدة، فهو بلا شك يُساعد على استغلال الموارد الموجودة وبما يُحقق التوازن العام، القضاء على الاختناقات، وكذلك القضاء النسبي على الهدر المالي. لقد أدى التحول الاقتصادي والاجتماعي في مختلف مناحي الحياة إلى بروز دور الدولة بشكل لافت للنظر خاصةً في البلدان النامية، والسؤال الكبير، هل تحرير الاقتصاد الوطني بعامة سيعود بالنفع على الجميع؟ لاشك ولا جدال في ذلك كوننا في مرحلة نحتاج فيها إلى قطاع خاص قوي يتولى زمام المُبادرة بعد ان هيأت الدولة له البنية الأساسية المناسبة، لكن يجب أن يكون هذا التحرير انتقائياً ومدروساً بطريقة اقتصادية واعية وبالتدريج حتى نتلافى الكثير من السلبيات، لذا فإن أي قرار يتعلق بتحرير قطاع من القطاعات المهمة والحساسة الواجب علينا فيه استدراك الآتي: هُناك ما يسمى بالاقتصاد المثالي (Normative Economics) وهو الذي يسعى إلى إيجاد حلول إنسانية تُمكن صانع القرار من التخفيف من الآثار السلبية لهذه القرارات، وعليه فإن أُحادية الرأي قد لا تكون الطريقة المُثلى والسليمة للتعاطي مع قرار بحجم رفع أو خفض رسوم سلعة أو سلع حساسة تهم السواد الأعظم من المواطنين أو إلغاء الدعم عنها، وجهات نظر أهل الاختصاص من مُختلف المشارب ستُعطي أفضل النتائج وستُحقق تقاربا في وجهات النظر، من خلال حساب الأرباح والخسائر المُتوقعة وكذلك نوعيات السلع ومروناتها الداخلية والسعرية، ومن سيتحمل العبء الضريبي، والآثار الاجتماعية، النفسية، الثقافية، والبيئية المُترتبة على هذه القرارات، وعليه فحتى اختلاف وجهات النظر ستخرج بصورة أدق، وأوضح، وأكثر معقولية وقبولاً لدى العامة. أيضاً، بعض القرارات الاقتصادية المتعلقة بتحرير أسعار بعض السلع سيكون لها مردود سلبي على الرأي العام ولذا وجب التنبه إلى مخاطر القلاقل الداخلية ولنتذكر مظاهرات الخبز في دول الجوار. من المناسب كذلك الحرص على الاستفادة المُثلي من الدعم بعد تحرير بعض القطاعات بحيث يتم تحويله إلى القطاعات الإنتاجية من صحية وخدمية وبنية تحتية.