الابتكار على الطريقة السويدية
في الأسبوع ما قبل الماضي تحدثنا ببعض الإسهاب عن كيف أن السويد باحة السلام – حتى الآن – تعد شعبها للأسواء، أي حرب طاحنة قد لا تبقي ولا تذر. وسيكون لنا عودة للموضوع في القادم من الأيام وذلك لأهميته.
ورغم أن السويد تعمل جاهدة للتعامل مع عالم تقاذفه الأمواج العاتية إلى درجة قد نصحو فيه كل يوم على شيء جديد غير متوقع، إلا أنها تحث الخطى لتبوء الصدارة في واحد من أهم المضامير التي دونها ربما لن تصمد أي دولة أو مجتمع، حيث المنافسة على قدم وساق بين الكبار والأقوياء، للاتكاء على الرقمنة الحاسوبية والذكاء الاصطناعي.
وتملّك ناصية الذكاء الاصطناعي، الذي سيقود مسيرة البشرية في العقود القادمة، إما صوب المجهول أو صوب الازدهار، له مسلك أو طريق واحد لا ثاني له.
إنه الابتكار innovation.
والابتكار وما أدراك ما الابتكار. إنه القدرة على الإبداع والاختراع، إنه الملكة التي ستبقى -الذي ينعم الله به عليها من الأمم والشركات والمؤسسات- في القمة ويحولها من حال رفيع المستوى إلى آخر أرفع منه.
إذا ما هو الابتكار يا ترى؟ هناك كم هائل من الأبحاث العلمية حول الابتكار، وهو مادة دراسية في الجامعات وموضوع حيوي يأتي على رأس قائمة الأوليات لدى الشركات والمؤسسات التي تولي الموضع أهمية قصوى، لأنه الوسيلة الوحيدة ليس لبقائها بل لمنحها المقدرة على المنافسة.
وإن قدمنا تعريفا مبسطا للابتكار علينا الانتباه أن الابتكار لا يعني بالضرورة اختراع شيء جديد، بل إجراء تحسينات ملحوظة على ما هو قائم من خلال تقديم أساليب أو أفكار أو منتج جديد يتفوق على المنتج المتوافر.
الابتكار هو إبداع واستحداث وتجديد: المبتكِر يقترح فكرة أو طريقة لاستبدال أو تحسين أداة قائمة بأخرى أفضل منها تقنع صاحب الشركة أو المعمل أو المؤسسة أن التغيير وراءه ثمار وفيرة.
ويقع الابتكار في أشكال شتى ومضامير مختلفة، إلا أن التركيز في الوقت الراهن هو على الابتكار التكنولوجي والرقمي والاصطناعي، والمبتكرون، أي الناس أصحاب الأفكار والبدائل والطرق الجديدة، هم عملة نادرة في عصرنا هذا.
كيف نجعل من بيئة ما أن تصبح حاضنة للابتكار مثل: البيئة السويدية التي تتصدر قائمة الدول الأكثر ابتكارا ولا تسبقها إلا سويسرا وبنقاط محددة وضمن نواحي تكاد إما أن تكونوا قريبة جدا أو متساوية.
والابتكار الذي نعنيه يقتصر اليوم في مجمله على الذكاء الاصطناعي، ومن ثم اتخاذ خطط تنموية لتطويع والاقتصاد وأغلب مضامير الحياة في التربية والتعليم والتصنيع والتنمية وجذب رؤوس الأموال وتحويلها إلى بيئة حاضنة، إضافة إلى إقامة بنية تحتية تمنح الفرص للابتكار المستدام دون انقطاع.
ولأول وهلة، قد يبدو أن الابتكار متاح للكل، حيث قلما تخلو دولة أو ربما بيت اليوم من المبتكرات التي لولا الرقمنة والذكاء الاصطناعي لما توافرت، ووفرتها أخذت تقلب ليس حياتنا وحسب بل الدنيا حولنا أيضا. ولكن الأمر ليس هكذا.
أنظر كيف أن المبتكرين اليوم دول أم شركات أم أفراد، يملكون الآلة التي يبتكرونها حتى وإن قبضوا ثمنها بعد بيعها. انظر كيف يسيطر المبتكرون من الشركات على الهواتف الذكية التي في حوزتنا رغم دفعنا أموالا طائلة لاقتنائها. وهذا حال أي تطبيق أو آلة تديرها الرقمنة أو الذكاء الاصطناعي.
ورغم أن السويد أتى ترتيبها الثاني في سلم أكثر دول العالم ابتكارا، إلا أن التقرير يطلق على الدولة لقب "رائدة الابتكار" في العالم، لا سيما في الذكاء الاصطناعي والصناعات ذاتية الحركة.
وتطلق الصحافة العالمية، وعلى الخصوص تلك التي تركز على الصناعات الآلية، لقب "المصنع الخرافي" على ستوكهولم، لما توفره من بيئة حاضنة لصناعات الذكاء الاصطناعي الناشئة وما تمنحه من امتيازات للمستثمرين والمبتكرين لتأسيس شركاتهم ومصانعهم.
الذي يعرف ستوكهولم، لا بد وأن يندهش عند تنقله من مطارها الدولي إلى مركز المدينة. قبل نحو عقدين كانت المسافة التي تبلغ نحو 30 كيلومتر تقريبا فارغة. اليوم تتكدس فيها العمارات والأبنية التي تشغلها شركات الذكاء الاصطناعي الناشئة وهي في تمدد على مدى الشارع الدولي طولا وعرضا.
وفي غضون عقدين انبثق من هذا "المصنع الخرافي" شركات قيمتها السوقية بمليارات الدولارات تأتي في مقدمتها كلارنا، وهيكساكون، وسبوتيفاي وسينج وغيرها.
كيف استطاع بلد صغير سكانه لا يتجاوز تعداده الـ10 ملايين نسمة أن يصبح رائدا في الابتكار؟ هذا سؤال مهم سأحاول الإجابة عنه في مقال قادم بعون الله.