التعليم العالي .. وإعادة البناء

يشهد التعليم العالي في السنوات الثلاث الأخيرة مرحلة ما يمكن أن نسميها (إعادة البناء) وهي مرحلة (انتفاضة) على سنوات البيروقراطية الإدارية، هذه المرحلة بدأ العمل فيها على مسارات متوازية تسندها ميزانية طموحة تعكس حجم ثقة وتطلعات القيادة إلى الرقي بالتعليم العالي كماً وكيفاً ليستوعب مخرجات التعليم العام، وليسهم بفاعلية في سد احتياجات سوق العمل في عصر اقتصاديات المعرفة، والاستثمار في العنصر البشري الذي يعتبر حجر الزاوية في أي تنمية اقتصادية واجتماعية.
ومرحلة إعادة البناء هذه شملت البناء التنظيمي الإداري والبناء المادي المتمثل في تشييد عدد من المدن الجامعية، بل حتى مبنى الوزارة ذاتها يشهد هو الآخر بناءً جديداً، وفي تقديري أن أبرز الملامح الإيجابية في هذه المرحلة هو التوجه نحو البُنى التحتية ولاسيما في المدن الجامعية في مناطق المملكة المختلفة، والاهتمام بهذا مؤشر نضج إداري ورؤية استشرافية رصينة، أشيد بهذا والذاكرة القريبة مثقلة ببعض مشاريع التطوير هنا وهناك المهووسة بالتقنية! التي كان همها الأول (الهاردوير) في نماذج تطويرية لا يمكن تعميمها!
أما فيما يتعلق بالبناء التنظيمي فثمة حركة متسارعة للعمل على مستوى إدارات وزارة التعليم العالي وحضور لهاجس الجودة – على الأقل فيما يظهر لنا - ولاسيما أن هناك جهازا إداريا يعنى بها وهو الهيئة الوطنية للجودة والاعتماد الأكاديمي.
هذه نظرة سريعة أشبه ما تكون بتقرير واقع مشاهد ومقروء، ولعلنا بعد هذا ننثر بعض الرؤى والتصورات وإن شئتم فقولوا الخواطر والأشجان.
في تقديري من الأمور المهمة التي ينبغي للوزارة العمل عليها, التوصيف الوظيفي الدقيق، وهو أمر من نتائجه انسيابية العمل، وإمكانية التقويم والمحاسبة، والسلامة من غوائل ترهل الهيكل التنظيمي وتضخمه وما يتبع ذلك من اكتظاظ المكاتب بما يمكن تسميته البطالة المقنعة!
من الرؤى أهمية إيجاد مركز تحكم (كنترول) داخل جهاز الوزارة يعمل على ضبط إيقاع العمل وعدم ازدواجيته بين الإدارات المختلفة مما يسبب إهدار الجهد والمال ولا سيما مع وجود المبادرات الإدارية الآنية للمشاريع والأعمال في ظل عدم خلو الساحة الإدارية من عقلية الاستلطاف الآني والسريع، ولاشك أن التوصيف الوظيفي يحد من هذا الأمر بشكل كبير.
من القضايا المهمة أن التوسع الأفقي الذي تشهد الوزارة والمتمثل في إنشاء الجامعات والمدن الجامعية سيكون حتماً على حساب التوسع الرأسي، في فترة البدايات، وهذا أمر مشاهد حتى في نمو الإنسان في بعض المراحل العمرية، وقد يكون هذا أمراً طبيعياً في بداية الأمر، لكن استشعار هذا الأمر وتصوره يحتم على مسؤولي الوزارة الحد من هذه الفترة وتقصيرها قدر الإمكان واعتبارها فترة استثنائية أملتها ظروف التوسع الأفقي السريع، وألا يعمينا الكم على حساب الكيف،وهذا من أولويات عمل الهيئة الوطنية للجودة والاعتماد الأكاديمي
من الأمور المهمة قضية الإعلام وقد أصبح هناك ما يسمى بالإعلام التربوي وفي تقديري أنه بات من ضرورات العصر، فالإعلام مثل الملح في الطعام مهم جداً ولا غنى عنه، لكن زيادته تفسد وتسبب الغشاوة على عين المسؤول! لاسيما أننا برعنا بشكل فائق في الإعلام ( التطبيلي) و(التدليسي ) أحياناً، أو ما يسمى في لغة أهل الحجاز (البكش) وهذا نتيجة طبيعية لاستباحة حمى الإعلام، فهل يحق لنا أن نقول:
وسائل الإعلام يا ملح البلد
من يصلح الملح إذا الملح فسد؟!
بعد هذا يظل التحدي والرهان على التعليم العالي والتحدي يزداد مع حاجة سوق العمل إلى الكوادر الفنية في التخصصات التكنولوجية والرقمية على وجه الخصوص ولاسيما أننا نعيش عصر اقتصاد المعرفة، إذ تقدر الأمم المتحدة على المستوى العالمي أن اقتصادات المعرفة تستأثر الآن بـ 7 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي العالمي وتنمو بمعدل 10 في المائة سنويا. وجدير بالذكر أن 50 في المائة من نمو الإنتاجية في الاتحاد الأوروبي هو نتيجة مباشرة لاستخدام وإنتاج تكنولوجيا المعلومات والاتصالات، وفي تقديري أن التعليم العالي الأهلي أهلٌ لجزءٍ كبير من هذه التطلعات، ونحن نشهد بدء العمل والدراسة في أكثر من 24 جامعة وكلية أهلية جُلها في التخصصات العلمية والتطبيقية، بل المؤمل أن تكون هذه الجامعات والكليات البديل الأمثل للابتعاث الخارجي ولا سيما مرحلة البكالوريوس، والتي ظهرت بعض المؤشرات السلبية للابتعاث الخارجي لها، أبرزها فقدان التوازن الذي يشعر به بعض المبتعثين للخارج في هذه المرحلة العمرية، والصحف اليومية تحدثنا عن إبداعات ومغامرات ومواهب للمبتعثين ! لكن المؤكد ألا علاقة لها بالعلم والهوية!
ثم بعد هذا كله المؤمل من الوزارة الاعتناء بعضو هيئة التدريس في الجامعات السعودية - ونحن نشهد شيئاً من هذا - إلا أن بعضاً من هذا الشيء كان دون الطموح فيما يتعلق بسلم الرواتب، فإن لم يكن هذا فليكن في قضية الإسكان، وفي تقديري أن تجربة شركة أرامكو والهيئة الملكية للجبيل وينبع وغيرها في إقراض منسوبيها لتملك مساكن تجارب رائدة يمكن تعميمها واستنساخها، وإذا علمنا أن عضو هيئة التدريس قد أمضى قرابة ثلث عمره الافتراضي حتى حصل على الدكتوراه، والثلث الثاني يمضيه في البحث والدراسات والعيش بين المتغير المستقل والمتغير التابع! فهل يكون الإقراض هو المستقل والسداد والراحة هما التابع ؟! ليعيش الثلث الأخير بهما ! لعل وعسى!

خاطرة:
وقد زعموا أني تغيرت بعدكم
ومن ذا الذي يا عز لا يتغيرُ!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي