شهر "المبكى" العربي
نحن الآن في شهر يونيو الميلادي, وما إن يحل هذا الشهر من كل عام إلا ونفتح فيه "حسينيات" اللطم السياسي ونقيم سرادقات الحزن القومي ونحوله لشهر "مبكى" عربي على ما تعرضت له أمتنا العربية من هزيمة عسكرية مرة ما زلنا نتجرع مرارتها حتى يومنا هذا.
لا شك ولا جدال في أننا في يونيو عام 1967 أصبنا بنكبة ثانية بعد نكبة سرقة فلسطين على يد العصابة الصهيونية بغطاء تآمري غربي بقيادة بريطانيا, حقق فيها عدونا الصهيوني نصرا عسكريا مدويا احتل فيه صحراء سيناء المصرية حتى قناة السويس وهضبة الجولان السورية وما تبقى من أرض فلسطين, الضفة الغربية بقدسها الشريف وقطاع غزة, وهو ما عرف بحرب الأيام الستة, أو ما سمي عربيا بـ "النكسة", وهو وصف من ابتكار الأستاذ محمد حسنين هيكل, الذي انتقده البعض على اعتبار أنه يخفف المصيبة ويدور حول الحقيقة, إلا أن الوقائع بعد ذلك أثبتت صوابه كتوصيف دقيق لما جرى في حزيران (يونيو), فإن كان العدو قد حقق آنذاك نصرا عسكريا مدويا وألحق بنا هزيمة عسكرية كاملة, إلا أنه لم يحقق النتائج السياسية والمعنوية التي تحدد بالفعل مدى النصر والهزيمة, فالانتصار العسكري إن لم يحقق أهدافه السياسية يظل منقوصا لا قيمة له, والأهداف السياسية التي كان يريد العدو إنجازها هي الاعتراف به والإقرار بوجوده, وهو ما لم يتحقق, ووصف ما حدث آنذاك بالنكسة وليس هزيمة كان محقا, كون العدو لم يجن من عدوانه ونصره العسكري أي تنازلات عربية سياسية, بل صمودا وتمسكا بالصراع والمواجهة.
بعد أن وضعت الحرب أوزارها وانجلى غبار المعارك جلس موشي ديان وزير حرب العدو في ذلك الوقت منتشيا وقال عبارته الشهيرة حين سئل: ماذا بعد؟ قال: أنا جالس أنتظر مكالمة الاستسلام العربي..! ولم يطل انتظاره, فجاء الرد العربي في مؤتمر قمة الخرطوم بعد أيام من انتهاء الحرب, حين التأم الشمل العربي في واحدة من أبهج لحظات التاريخ العربي الحديث, فتلك القمة بظروفها المأساوية, وعلى خلفية نكسة وهزيمة ما زالت مرارتها علقما, اتخذت قرارات حاسمة وفاصلة ردت على أوهام وأحلام ديان بتلك اللاءات الثلاث الشهيرة التي أعادت التوازن للموقف العربي عمليات ومعنويا, لا اعتراف ولا صلح ولا تفاوض, وموازاة لذلك اتخذت قرارات لدعم المجهود الحربي العربي لدول الطوق والمواجهة مصر والأردن وسورية ولبنان ومنظمة التحرير الفلسطينية, ومن هذه القرارات بدئ بإعادة بناء القوة العربية ضمن ملحمة وإصرار عربي لمواجهة الهزيمة بتجاوز الخلافات والتسامي عن المحاسبات وتصفياتها, وشاهدنا كيف كون القادة العرب في تلك القمة جبهة موحدة لدعم المجهود الحربي والصمود لدول الطوق والمواجهة, ومن تلك الجبهة العربية المكونة من دول مواجهة ودول دعم ومساندة, بدأت إعادة بناء القوة العربية العسكرية والمعنوية بمشاركة عربية شاملة وفي واحدة من أبهى صور التضامن القومي العربي, الذي لعب فيه المغفور له بإذن الله الملك فيصل بن عبد العزيز دورا بارزا ومهما وفاعلا حين صفى خلافات الماضي مع الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ـ رحمه الله ـ بمواقف الكبار وقت المحن والأزمات, وتشكل بعد ذلك موقف عربي صلب على قاعدة الرئيس عبد الناصر ـ رحمه الله ـ بأن "ما أخذ بالقوة لا يسترد إلا بالقوة", وهو الموقف الذي مكن فيما بعد من قيام حرب الاستنزاف على الجبهة المصرية وتفعيل دور منظمة التحرير الفلسطينية حتى انتصار أكتوبر/ رمضان عام 1973, الذي رددنا فيه على هزيمة يونيو واستعدنا فيه المبادرة ومسحنا فيه آثار نكسة عام 1967, والذي كان ثمرة مواقف العرب في قمة الخرطوم بعد النكسة مباشرة, فقد كان للتلاحم العربي كما تجلى في اتفاق الخرطوم والمواقف الصلبة التي اتخذها القادة العرب دور مهم ومفصلي في القدرة على تجاوز المحنة والهزيمة وآثارها, وأثبت أن الأمة قادرة على القيام من عثرتها وبناء تماسكها في أحلك الظروف وأصعبها متى ما امتلكت الإرادة.
من المؤسف أنه كلما حلت ذكرى يونيو المؤلمة لا نتذكر منها إلا الصورة القاتمة ممثلة في الهزيمة العسكرية فقط, ونتناسى الصورة المضيئة حين استطاع القادة العرب آنذاك لملمة الجراح ورممة الموقف بسرعة وفاعلية, فالتاريخ يحفظ لقمة الخرطوم تلك أنها قمة التصدي وبصلابة ومسؤولية للنكسة والهزيمة, وأنها القمة التي أفرغت نصر العدو من أي نتائج إيجابية له وسلبية علينا, فقد أثبت العرب آنذاك أنهم قادرون على تحمل الصدمات مهما كانت قاسية وحادة, على احتواء ما حدث بكل مرارته, فما واجهناه في يونيو عام 1967 كان صدمة مروعة وهزيمة عسكرية كاملة لو تعرضت لها أمة أخرى لأعلنت استسلامها وقبولها بكل شروط عدوها المنتصر, ولكن العرب في ذلك الوقت تجاوزوا ذلك بقوة وثبات رغم شدة المرارة.
إن الدروس المهمة التي علينا استخلاصها من ذكرى يونيو عام 1967, هي أن هذا العدو لا تجدي معه إلا المواجهة والتصدي والثبات على الحقوق, أما المهادنة والبحث عن حلول سلمية بمعزل عن موقف قوة ستؤدي في نهاية الأمر إلى جنيه مكاسب عدوانه في يونيو بأثر رجعي, وهذا هو الحادث اليوم في ظل تبعثر الموقف العربي, فبحجة السلام هناك من قدم للعدو تطبيعا وسلاما مجانيا بكل أسف, والدرس الآخر هو أنه كلما تماسك العرب وتضامنوا حققوا قوة يؤخذ حسابها, وشاهدنا كيف أدى تضامن العرب وتكاتفهم في قمة الخرطوم عام 1967 إلى انتشال الأمة من أخطار الهزيمة وهم في أحلك الظروف وأصعبها وأضعفها.