التسعير 2 من 2

ذكر بعض الفقهاء المعاصرين شروطا في جواز التسعير، ولكن من المهم هنا التنبيه على أن الفقهاء يركزون على المبادئ العامة مثل أن الله سبحانه يأمر بالعدل وأن الشريعة جاءت لتحقيق المصالح، أما التفاصيل فتتعدى حدود الفقه، كالتعرف على خصائص السلع ومكان الحاجة وأسباب الغلاء وكيف يسعر.
والحكم على الحاجة أو أن الأسعار أصبحت غير معقولة قد يكون نسبيا، ولذا فإن الأمر بحاجة إلى معايير يستند إليها.
لنأخذ المثال التالي:
لو قال قائل من مواطني إندونيسيا "أغلب الناس في بلدي لا يقدرون على تملك سيارة، نظرا لأن أسعار السيارات غير معقولة". ما مدى قوة منطقه بأن أسعار السيارات في إندونيسيا غير معقولة؟
طالما أن أسعار كثير أو أكثر السلع في إندونيسيا غالية في نظر الشعب الإندونيسي، وفوق طاقته، مقارنة بالشعوب الخليجية، فلماذا لا تسعر الحكومة الإندونيسية؟ لماذا لا تجبر التجار على بيع معظم السلع مثلا بنصف أو ثلث أسعارها الآن؟ بحيث تتوافر للشعب الإندونيسي مستويات معيشة مشابهة للمستويات في دول مجلس التعاون الخليجي؟ الأمر ليس بهذا التبسيط.
وهناك نوعان من التسعير: تسعير سقفي أي وضع حد أعلى للأسعار وتسعير أدنى، أي وضع حد أدنى للأسعار، وأشهر مثال وضع حد أدنى للأجور. وربما وضع سعر ثابت، لا يحق تجاوزه زيادة أو نقصا.
تتدخل الحكومات بالتسعير بصورة مستمرة أو مؤقتة. التدخل المستمر عادة في حالتين:
1- خفض أسعار سلع منتجات أساسية عن أسعار التكلفة أو السعر التوازني، عبر تقديم دعم (تحمل بعض التكلفة) مباشرة، أو عبر دعم المنتجين (غالبا المزارعين).
2- عبر تنظيم السوق للحد من رفع الأسعار عن الأسعار التوازنية أو التكاليف الحدية. أشهر أمثلة التسعير في حالة الاحتكار الطبيعي natural monopoly وتسعير الدواء.
كما تتدخل الحكومات أحيانا في بعض الأسواق لمنع الأسعار من الارتفاع إلى السعر التوازني، ويحدث هذا التدخل بصورة مؤقتة، عادة في ظرفين: 1- إما خلال الأزمات، من خلال تسعير سلع يحتاج إليها عامة الناس، ويقترن بالتسعير عادة تقنين الكميات المباعة، ووجود شكل من أشكال الدعم الحكومي. 2- وإما بوضع حد أعلى لزيادة الإيجارات أو الأجور، في ظروف وجود اختلال كبير بين العرض والطلب. والهدف في كلتا الحالتين مكافحة التضخم.
وقد بين التحليل الاقتصادي النظري وبينت المشاهدة في مختلف أنحاء العالم وعلى مدى عشرات السنين أن التسعير كثيرا ما يتسبب في جعل الطلب أعلى من العرض.
هل يعني ذلك الدعوة إلى الارتكان إلى قانون العرض والطلب وعدم تدخل الحكومات؟
ليس الأمر بهذا التبسيط.
قد يحدث أن ترتفع الأسعار ارتفاعا كبيرا في إطار تلاعب، وقد يحدث بسبب اختلال بين عرض وطلب سلعة أو مجموعة من السلع، دون وجود تكتلات أو تعمد سلوكيات للإضرار بقوى السوق.
من المهم التعرف على خصائص السلع، وأن تحلل إنتاجا وتكلفة وبيعا وطلبا، وأن تدرس جيدا آثار ومحاسن وعيوب التدخل، كما أن من المهم أن تدرس أسباب الاختلال بين العرض والطلب، وأن يعمل على حلها، حتى لا يتحول التسعير المؤقت إلى دائم.
باستثناء حالات خاصة، من الصعب جدا تنفيذ التسعير الخالي من سوء التطبيق والاختلال في توزيع الموارد، على المدى البعيد خاصة.
وخير من التسعير حماية المنافسة في حالة تعمد الإضرار بقوى السوق. وأصبحت عملية حماية المنافسة ومكافحة التكتلات تدخل ضمن أعمال الحكومة في تنظيم regulate الأنشطة ذات الطبيعة التجارية. وتدخل الحكومة لتنظيم الأنشطة التجارية يأتي في أطر منع استخدام النفوذ لتعطيل قوة السوق، كما تأتي في أطر تصحيح التشوهات التي تصيب السوق، وليس في أطر إجبار الناس على البيع بغير رضاهم. خلاف الاحتكار الفردي أو احتكار القلة (أي تكتل أو تواطؤ القلة)، هناك مصادر أخرى لتشوهات السوق وأهمها وجود صعوبات في الحصول على المعلومات (أو الاستفادة منها) ووجود تأثيرات خارجية.
شراء الدواء يعد من أشهر أمثلة مشكلة نقص المعلومات التي تتطلب تدخل الحكومة بالتسعير. معلوماتنا عن كثير من الأدوية وما نحتاج إليه منها ليست بالقدر الذي يسمح لنا بالتصرف من تلقاء أنفسنا، بل وفق وصفة طبية، ولكن الأطباء يتعرضون إلى مغريات قوية من وكلاء شركات الأدوية لوصف أدوية شركات بعينها للمرضى، لها بدائل مماثلة أقل ثمنا، ولكنها لشركات أقل شهرة، وأقل مصروفات وخاصة على التطوير. تنظيم سوق الأدوية التي يفترض أن تشترى بالوصفة مبرر، إذ بدون هذا التنظيم يحتمل جدا أن تقرر شركات أدوية أسعارا أعلى، اعتمادا على طلب غير مرن بسبب التواطؤ مع أطباء، أو بسبب الاحتكار (الأدوية المحتكرة تعد ضرورية في الغالب، لا يصلح معها تطبيق مقولة "دواء الغالي تركه").
ومع ذلك فإن مكافحة الاحتكار ليست خالية من العيوب، فقد يرى أن الاحتكار أو التكتل يجلب، في حالات، تحسينا في الكفاءة الاقتصادية، أو خفضا لتكلفة إنتاج الوحدة الواحدة. وفي هذه الحالة، فإن الحكومات تتدخل بسن تنظيمات تسعيرية في حال السلع الأساسية كالكهرباء، خوفا من رفع الأسعار عن الأسعار التوازنية أو التكاليف الحدية.
التسعير في عصرنا أصبح موضوعا شائكا، بالنظر إلى التطورات في أنماط وخصائص السلع وإنتاجها وآثار تسعيرها، وهذه قضايا يدرسها الاقتصاديون بالتفصيل، ولا بد للفقهاء من الرجوع إليهم لفهم الظروف المحيطة بالتسعير وآثاره، وبالله التوفيق،،،
* متخصص في الاقتصاد الكلي والنقدي والمالية العامة، وكبير اقتصاديين سابق في وزارة المالية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي