هل ستزيح الأرقام لغة التعبير؟
إضافة إلى كونها وسيلة للتعبير، فإن اللغة تشبه الوعاء الذي فيه يحفظ الناطقون بها تراكم تراثهم وفنونهم وثقافتهم وأيامهم وأشعارهم وآدابهم.
ولكن يبدو أن العالم، وعلى الخصوص الشق السياسي والاقتصادي منه، صار ينحو صوب الأرقام للتعبير بدلا من الأبجدية.
الأرقام تتكلم شأنها شأن اللغة، بيد أنني لا أظن أن وظيفتها كانت حاسمة كما اللغة طوال التاريخ.
قد يرى القارئ الكريم أنني ذهبت بعيدا ومنحت الأرقام بعدا تعبيريا لا تستحقه، لأن مهما كانت أهمية الأرقام فإنها لن تجاري اللغة في تشكيلنا ثقافيا وفنيا وأدبيا والـتأثير على تكويننا الاجتماعي والتربوي والسياسي وغيره.
الأرقام لن تزيح اللغة وكذلك الرموز التعبيرية emojis إلا أنها برزت في الآونة الأخيرة كوسيلة فعالة للتعبير قد توازي في بعض المناحي ما للغة من طاقة تعبيرية.
وأفضل برهان للدور المحوري الذي تلعبه الأرقام في التعبير عن الواقع الاجتماعي ما نلاحظه في الخطاب الذي يرافق الإدارة الجديدة في البيت الأبيض بقيادة الرئيس الأمريكي دونالد ترمب.
ترمب مغرم بالأرقام، فهو لا ينظر إلى العالم حوله من خلال الأرقام وحسب، بل يحكم عليه مستندا على الأرقام التي في حوزته، والأنكى فإنه يبني سياساته وقراراته على قراءته الخاصة لهذا الأرقام.
عند قرأتنا للخطاب الذي يدلي به ترمب – وهو أقوى رجل في العالم – لرأينا أن الملايين والبلايين من الدولارات هي الطاغية. أنظر مثلا السياسة الجديدة التي تبناها صوب الحرب في أوكرانيا التي لم تقلب الوضع في أوروبا على عقب وحسب، بل جعلت القادة الأوروبيين يضربون الأخماس بالأسداس للتعامل مع الأرقام التي ترد على لسان ترمب.
لا يجوز البتة الاستهانة بخطاب الرئيس الأمريكي، أيا كان، وبغض الطرف عن موقفنا من السياسات الأمريكية سلبا أم إيجابا، رغم أنني هنا لست في وارد الحديث عن السياسة، بل في وارد تحليل الخطاب وتأثير الأطر الخطابية في الواقع الاجتماعي.
العالم يقف مشدوها أمام الأرقام ولغة الأرقام اليوم، لأن أقوى رجل فيه يقود أعظم قوة عسكرية ومالية واقتصادية عرفها التاريخ البشري تستهويه الأرقام أكثر من أي شيء آخر.
ومن هنا يبدو لي لماذا العلاقة الحميمة التي تربط ترمب مع إيلون ماسك، المستثمر والمهندس والمخترع والمبتكر وأغنى رجل في العالم قاطبة.
ماسك، واحدة فقط من شركاته الأخطبوطية الـ6 كانت قبل حين تساوي أكثر من ترليون دولار، أظن ما هو إلا مجرد أرقام وبيانات، هذا همه وهذا هو الهم الذي يتحكم في أذهان أصحاب عشر شركات تكنولوجية أمريكية كبيرة حديثة العهد، التي تفوق قيمتها السوقية مجتمعة قيمة الاقتصاد الوطني الإجمالي في دول الاتحاد الأوروبي قاطبة.
ماسك وأقرانه لا أظن يكترثون لهموم الناس، حتى في أمريكا ذاتها، ولذا تراه يمضي في سياساته المستندة إلى الأرقام والبينات غير مكترث إن كانت إجراءته ستتسبب في حرمان طفل من الحليب أو مريض من الدواء.
ماسك يؤدي دورا مؤثرا في إدارة أمريكية تؤمن بالأرقام، وهو لا يرى نفسه إلا من خلال الأرقام والبيانات وهي وسيلته الوحيدة لتبرير ما يقوم به من استقطاعات وإلغاءات لقطاعات حيوية في المجتمع والاقتصاد الأمريكي.
مهما كانت اللغة التعبيرية التي نستخدمها مشحونة بالمعاني الإنسانية – سياسات ماسك لها بعد وتأثير في حياة الملايين من الناس – لا أرى أن في إمكانها الوقوف في وجه ماسك، الذي يلوح بالأرقام والبيانات التي من خلالها يحاول إماطة اللثام عما يقول إنه فساد وإسراف وتبذير للموارد.
هل دخلنا عصرا تتنافس فيه لغة الأرقام مع لغة التعبير؟ أترك الجواب للقارئ الكريم.