يجب القضاء على الكحول!

قد يتعجب المرء من تبدل الأحوال كما يقول ابن خلدون، ففي عام 1919م أطلقت صيحة جماهيرية في أمريكا تقول"يجب القضاء على الكحول"؟! وهي خطوة نسيها الناس منذ أمد بعيد، وكانت قانونا صارما أطلق عليه قانون (فولستيدVolsted ) وسماها الناس يومها سنوات الجفاف. استمر هذا القانون ساري المفعول حتى سقط عام 1933 أي استمر 14 عاما من دون فائدةً، ولم تجرب أمريكا بعدها مثل هذه التجربة الأليمة، في إصدار قوانين غير قابلة للتطبيق، جهلاً بالنفوس ومدى طاقتها، ولم يحرم الإسلام الخمر منذ أول لحظة، لمعرفته أن النفس الإنسانية التي تعودت على شيء يصعب فطامها، فكيف بمعاقرة الخمرة. بل حرمها بعد تأسيس طويل لها، مثل زرع الأشجار، فتضرب بعيدا في تربة الضمير فتنمو شجرة باسقة طلعها هضيم.
وقصة تحريم الخمر في أمريكا قصة عجيبة، وكان خلف القانون الأمريكي قطاع كبير من الناس، وخاصة التيار النسوي الملتزم، وهو درس من التاريخ جدير بالتأمل،لأن هذه الأمة الناشئة رأت من مضار الخمر الشيء الكثير، وقالت إنه حري بها كأمة في مقدمة الأمم، أن لا تسيطر عليها مثل هذه العادة القبيحة، وفعلاً أقدمت أمريكا على هذه الخطوة بجسارة، وفي مغامرة كبرى ثبت فشلها لاحقاً. ونفسيا وبغير تهيئة يحدث في جو التحريم أن ينشط التيار المعاكس، فإن أردت شهرة قلم أو كتاب فقم بتحريمه، والنفوس مركبة على معرفة الغامض والخفي والمستور والمحجوب. ومع تحريم الخمر نشطت عصابات رهيبة، اشتهر منها ثلاث عصابات، كانت الأولى في شيكاغو، وتعود أصولها إلى إيطاليا، أما الثانية فقادها رجل ذو بأس شديد، ذو وجه مفزع، ينحدر من أصول أيرلندية، اشتهر في القضاء الأمريكي، باسم (آل كابوني). وأما العصابة الثالثة في غرب شيكاغو فكان يقودها الأيرلندي باغز، واستفاد الكل من قانون تحريم الخمر، فجمعوا ثروات هائلة من مال السحت، وقفزت إلى واجهة الأحداث عصابات مدربة من القتلة، واشتد تهريب الخمر من كندا، فشرب الناس الخمر بالحرام أكثر من الحلال، وكله حرام.
واستفادت كندا وخسرت أمريكا، وكان التهريب يمر في جنح الظلام عبر البحيرات العظمى، واستنفرت أمريكا نفسها في كل سواحلها لتمنع تجارة الخمر، التي راجت أكثر من ذي قبل، وتضاعفت أسعار الكحول أضعافا مضاعفة. حتى وقعت يوم العشاق فالنتين في 14 شباط (فبراير) من عام 1919م مجزرة مروعة في شيكاغو؛ فقد أراد آل كابوني التخلص من منافسهم باغز؛ فكلفوا قاتلاً محترفاً، هو (ماكدون جيبالدي) بتصفيته. واعتمدت الخطة على استدراج خصومهم، أن يبيعوهم خمرا بسعر مناسب، ثم جاء أربعة من القتلة بلباس الشرطة، إلى شارع (نورث كلارك) بحجة أنها حملة مباغتة من الشرطة، لمن يبيع الخمر سرا، ولكنهم حصدوهم بالرشاشات؛ فأطلقوا على ستة منهم 70 طلقة في 30 ثانية. وكان الأيرلندي رئيس العصابة محظوظاً، فعند رؤيته الشرطة على باب وكره، انسل وفارق المكان، ولم يكن القاتل المحترف (ماكدون جيبالدي) المكلف بقتل باغز المذكور يعرفه؛ فظنه مع المقتولين، ولكنه نجا بالصدفة. وكذلك فعل الأقدار. والمهم أن كلتا العصابتين انتهت إلى أن مات آل كابوني في السجن عام 1931م، واعتقل باغز ومات في السجن بعد عشرة سنوات أسيرا مقيدا. وفي ظل تحريم الخمر بدأ الناس يصنعون الخمر سراً، وافتتح أكثر من مائة ألف محل إضافي سري، وثبت أن القوانين من فوق غير مفيدة، في اقتلاع هذه العادة السيئة من الشعب الأمريكي، مع كل معرفتهم بأنها ضارة. وبعد أكثر من عقد من السنين من التحريم، واعتقال مئات الآلاف، وموت عشرات من الناس في المخالفات القانونية، لم تنجح الخطة. واضطر المشرع الأمريكي أن يتراجع عن القانون أسيفا، فأباح شرب الخمر من جديد، كما هو الحال في السلاح الذي يباع في المحال مثل بيع الخضار. وهذا يفتح عيوننا على أثر عمل القوانين، فما لم تهيأ النفوس لقرارات خطيرة من هذا النوع، لا يمكن اقتلاع عادات ضارة مثل الدخان والخمر وما شابه.
و"إنما الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رجس من عمل الشيطان فاجتنبوه لعلكم تفلحون".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي