اقتصادات السعادة

توفي في ديسمبر الاقتصادي المعروف ريتشاد استرلن Easrerlin الاقتصادي الخبير السكاني الذي كرس جهوده لاقتصادات السعادة وخاصة في العلاقة بين المقدرات المالية وتغيرها ومستوى السعادة. علاقة تهم كل فرد بطريقة أو أخرى وإن لم يرد أو يستطع تأطيرها فكريا.

ذكرتني وفاة ريتشارد بالموضوع خاصة أنني كتبت سابقا سلسلة عن أعلام الاقتصاد. تقليديا المعروف في الاقتصاد، أن فكرة المنفعة الشخصية، التي بدورها أساس العقلانية في الفكر الاقتصادي، تحمل علاقة إيجابية بين السعادة والمستوى المالي لدى الفرد. أغلب الناس ربما تقبل هذه العلاقة، ولكن استرلن ظهر بتصور سمي " تناقض استرلن" بأن مزيدا من النمو الاقتصادي بحد ذاته لا يقود لمزيد من السعادة في عامة المجتمع. لذلك تحاول بعض السياسات العامة الاقتصادية توظيف المال مع عوامل أخرى تأخذ هذه العلاقات في الحسبان. أبحاثه ركزت على أمريكا واليابان، اللتين حققتا قفزات كبيرة في حصة الفرد من الدخل القومي الإجمالي بعد الحرب الثانية، ولكن استطلاعات الرأي لم تسجل ارتفاعا في مستوى السعادة، يتناسب مع القفزات الاقتصادية.

السبب يعود إلى أن الموضوع المالي يهم الناس حتى مستوى معين من تأمين الاحتياجات الأساسية، ومن ثم تبدأ المقارنة مع الآخرين والانغماس في يسميه الاقتصادي فبلن الاستهلاك المظهري، فما يملك القريب والجار والصديق، هو المعيار وليس ما يكفي لأغراضك وأهدافك الشخصية. الانشغال بالمقارنات الاجتماعية يشغل الناس. الرغبة في التميز التي تحاكي الغرائز الأولية عند البشر وحتى الحيوانات، تساعد على تغذية المقارنة. كما تسهم البيئة الاستهلاكية ومنها توفر المعلومات السريعة في ضغط مجتمعي متواصل للمقارنة.

الطبيعي والمتوقع أن الفرد يرغب في ارتفاع دخله مهما وصل من مستوى، ويسعد مع كل ارتفاع من زيادة في الراتب أو مكافأة سنوية أو حتى دعم غير متوقع. ولكن تشير أغلب الدراسات والملاحظات الشخصية إلى أن الفرد سرعان ما يتكيف مع الدخل الجديد، ويسأل أقرانه في العمل عما حققوا خاصة من يقوم بأعمال مشابهة، لأن الغيرة والحسد تجران إلى قتل الفرحة بالزيادة أو مكافأة، لأن الإنسان عقلانيا أو عاطفيا أو كليهما سيجد أسبابا لنجاحه أو تبريرا لتقصيره، لذلك يستمر في دوامة البحث عن السعادة إن حصل على المال أو لم يحصل. لكن في نظري هناك حالة وسطية ليست في المستوى المالي، ولكن في مستوى المقدرات المادية، قد يبدو للبعض أن ليس هناك فرق أو أن هذا تلاعب بالألفاظ، ولكن الفرق الأساس في الجمع بين تحقيق مستوى الطبقة الوسطى العليا عالميا، أننا نعيش في مساحة أوسع، ولذلك لم تعد المقارنة قريبة، وبالتالي انتفاء المقارنة المزعجة أو الحد منها من ناحية، والتمكين المالي لمساعدة القريب قدر الإمكان من ناحية أخرى.

فقد قيل ربما السعادة ليست بالمال، ولكن لا تجرب السعادة دون مال. كذلك للسعادة جانب اجتماعي تكافلي ليس ماليا فقط، ولكن في الروابط العائلية والصداقات والانشغال بالهوايات المفيدة، لأن هناك أقرب ما يكون لعامل مكاني فإما أن تنشغل بالمفيد أو غير المفيد. كذلك العاقل يميز بين الفرحة والسعادة، فالأولى لحظية، والثانية حالة ذهنية.

فالإنسان ليس كمن يشاهد فيلما كوميديا يقهقهه للأبد أو من يفوز بجائزة ويصفق له الآخرون، ليس أيضا من لا يعيش واقع الحياة الذي تعبر عنه الآية الكريمة: "خلق الإنسان في كبد"، أي في كفاح و صراع و مزاحمة، فسيطرة الإنسان على جوامحه علامة الحكمة وطريق السعادة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي