بيتي حيث مكتبتي!

"إن بيتي هو المكان الذي توجد فيه مكتبتي". هذه المقولة المشهورة للفيلسوف الإنساني (إيراسموس)، وفي الواقع لا يزال سر عصر النهضة في أوروبا محيرا فما الذي يوقظ الأمم من سبات الجهالة؟ وكيف ولد عصر التنوير ما سمي Renaissance الذي بدأ في منتصف القرن الـ 15، وما زالت أمواجه تكبر وتتدافع حتى اليوم، بل إن كل طوفان الحداثة هو من ذلك البركان الذي تفجر من شمال إيطاليا، ليغطي كل القارة الأوروبية ثم العالم؟
يصف المفكرون صفات هذا التحول بأنه جمع ما لايقل عن عشرة مزايا، على شكل حلقة كل طرف يؤثر في الآخر، على نحو متبادل عكوس. فقد نشأ شيء اسمه (الفلسفة السياسية) في محاولة اكتشاف قوانين اللعبة السياسية، مثلها في أوضح صورة كتاب (الأمير) لمكيافيللي. وظهرت بدايات (الاتجاه الإنساني) الذي لا يعبأ بالقومية، وقام بنقد النصوص الدينية، ظهر هذا واضحا عند إيراسموس من روتردام، وتوماس مور البريطاني، الذي أنهى حياته مفصول الرأس فوق برج لندن!. وتقدمت الفنون التكنولوجية سواء في التعدين أو التنجيم أو نظام السقاية. وولدت المطبعة على دهشة من أوروبا على يد (جوتنبرج)، ومع الطباعة والورق تحرر عقل الإنسان كما يقول المؤرخ البريطاني (هـ . ج . ويلز) في كتابه (معالم تاريخ الإنسانية). وبدأت عملية إحياء الدراسات الكلاسيكية في الآداب والفنون والفلسفة. ولأول مرة بدأ تداول أرسطو وسقراط وسينيكا وايبيكتيتوس بعد العصر الإغريقي ـ الروماني ولكن بنسخة معدلة. ولأول مرة تبدأ العلوم في الانتعاش والتقدم على كل الجبهات في الطب والفلك والجغرافيا والكيمياء وعلم النفس والتاريخ. فالمخترع (ليوناردو دافينشي) يتنبأ بأشياء كالخيال من الطيارة والغواصة. وتتحول معرفة السماء من (علم التنجيم) إلى (علم الفلك). وكما يقول المؤرخ الأمريكي (ويل ديورانت) في سفر كتابه (قصة الحضارة) الذي كتبه عام 1543 م كان عام العجائب؛ ففيه تم خرق السماء والجسم والأرض؛ فرسمت الأرض بجغرافيا جديدة، ولم يبق مكان لبحر الظلمات، ولأول مرة دار (ماجلان) حول الأرض الكروية بعد أن كانت شيئا نظريا متنازعا عليه. وقلب (كوبرنيكوس) المفهوم الكنسي حول الأرض التي يدور حولها كل شيء، وتحولت معها الأرض إلى كوكب تافه، في مجرة عملاقة، في نظام شمسي لانهاية لحدوده. ودخل (فيزاليوس) بجرأة إلى تشريح الجسم، بعد أن كان علم التشريح حجرا محجورا، وعرفنا أن البدن آلة فيزيولوجية، تعمل بقوانين مثل أي آلة مع فارق التعقيد، وبذلك دخل العلم إلى آلية الأمراض ومعالجتها على نحو انقلابي؛ فتحرر الطب من الخرافة والسحر والشعوذة. وغادر علم (الخيميا) ليصبح علم الكيمياء الحديث. وكان العصر عصر المغامرات والاكتشاف ففي عام 1492م كان (عبد الله الصغير) يسلم مفاتيح غرناطة، وتتحد إسبانيا، وينطلق (كولومبس) في رحلة إلى المجهول، بأغرب من ارتياد المريخ هذه الأيام، وأعجب ما فيها فكرة الوصول إلى الشرق من الغرب، مثل من يريد أن يدل على أذنه الشمال باليد اليمنى! والذي دفع لهذا كان الضغط العثماني من الشرق خاصة بعد معركة ملاذكرد، الذي قطع طريق التجارة إلى الشرق الأقصى، فأصبحت إسبانيا والبرتغال وظهرهما إلى المحيط، ومنه جاء الخير العميم والفيض القدير! فأما البرتغال ففضلت تطويق العالم الإسلامي تسللا بجانب الشواطئ الإفريقية، التي بدأها الأمير (هنري الملاح) عام 1418م. وأما (كولومبس) فقد ضرب ضربته التاريخية، فنقل الحضارة كلها من حوض المتوسط إلى الأطلنطي، وحبس العرب في قمقم المتوسط، مثل قصة الجني وسندباد! ووضع الغرب يده على أراضي هي أكبر من سطح القمر! ولكن أهم ما حصل على الإطلاق كان الإصلاح الديني الذي جاء منه الفتح المبين. ومن سبق مارتن لوثر كان الإنساني (إيراسموس) الذي كتب عام 1517م إلى صديقه الكاردينال يورك: "في هذا الجزء من العالم أخشى أن هناك ثورة عظيمة توشك على الوقوع" وفي أقل من شهرين وقعت ثورة مارتن لوثر.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي