أوهام حول المصرفية الإسلامية

يتوهم كثيرون أن المصارف الإسلامية لن تنظر إلى تعظيم الأرباح كما تنظر البنوك التقليدية وغيرها من المنشآت التجارية. ويتوهمون أنها ستعطي العمل الخيري والنفعي غير الربحي اهتماما أكثر من غيرها.
كتب كثيرون موصين البنوك الإسلامية بإعطاء اهتمام كبير لصندوق الزكاة، وتشجيع المشاركين والمتعاملين مع البنوك على إخراج زكاتهم وإنفاقها في مصارفها الشرعية. وأوصى آخرون تلك البنوك بدعم إقامة المستشفيات ودور الأيتام والمساجد وغيرها من أوجه النفع العام للمسلمين والاستعانة في ذلك بأموال الزكاة والخيرات والنفع العام.
وكتب فريق ثالث متحدثا عن المطلوب من البنوك الإسلامية. ومما قيل إنه ينتظر منها تعويد الناس كيف ينفقون أموالهم، وأن تساعد على توفير وسائل الإنتاج للقادرين، حتى لا يكون هناك بطالة حقيقية أو بطالة مقنعة، وأن تعطي قروضا حسنة، وأن تمنح تمويلا بشروط ميسرة.
من يطلب منها هذه الأشياء فهو يعيش في أوهام.
المصارف الإسلامية مثلها مثل المصارف التقليدية تهدف إلى الربح، ولا يصلح أن نفترض أنها لن تخضع للمعايير التي تحكم سلوك المنشآت التجارية.
لماذا؟ لنرجع إلى الأصول.
ما الذي تفيده زيادة أو إضافة كلمة إسلامي إلى كلمة مصرفية أو مصارف؟
إضافة أو زيادة كلمة إسلامي إلى كلمة أخرى لا تقلب معنى الكلمة الأخرى إلى معنى آخر، بل تعني المعنى المعهود في الذهن للكلمة الأخرى موصوفا بأنه إسلامي. وتبعا لذلك، المصارف في كلمة مصارف إسلامية لا تعني نشاطا بنكيا مختلفا في جوهره عن المعهود، بل تعني أن هذا النشاط أو القطاع المعهود في الذهن موصوف بأنه إسلامي. والقطاع المصرفي المعهود في الذهن قطاع تجاري يقدم خدمات بعينها بغرض تحقيق الربح. وإضافة كلمة إسلامي تعطي قيدا بأنه يقدم تلك الخدمات مأخوذا بعين النظر ألا تخالف الشريعة. ولكنها لا تعني أن ممارسة هذه الأعمال تحمل بعدا غير تجاري.
وللتوضيح أضرب مثالا. المنشآت التجارية الأخرى كالمطاعم والفنادق (في غالبية الدول) تقدم خدمات كثيرة، أكثرها مباح، وقلة منها تحرمه الشريعة. وحين يمتنع بعضها عن تقديم الخمر مثلا، فإنه ينبغي ألا نستنبط من ذلك أن هذا الامتناع يعني تحولها بصورة تلقائية ولو بصورة جزئية إلى منشآت يغلب عليها الطابع الخيري والاجتماعي، لمجرد أنها امتنعت عن تقديم الحرام. ومن يقول بذلك فهو يتوهم أن تجنب الحرام يعني بالضرورة الزهد في الدنيا.
نشرت لي هذه الجريدة مقالة بعنوان "عالمية علم الاقتصاد"، في العاشر من أيار (مايو) 2009. وسردت في المقالة بعض ما أراه أهم معايير وأصول علم الاقتصاد: حب الاستزادة من متاع الدنيا وكون الموارد لها حدود ومقادير والاختيار وحق الملكية الخاصة وأهمية التنظيمات والقوانين والنظم ودور الحوافز والاستفادة من التبادل. وعلقت على ذلك بأن المعايير أو الأصول السابقة تعبر عن صفات بشرية، بغض النظر عن الدين أو الموقع الجغرافي، ولكن تظهر أحيانا خلافات في تفاصيل، تلك المعايير كما أنها تحكم سلوك الأفراد، فهي تحكم سلوك المنشآت التجارية، إسلامية أو غير إسلامية.
عندما بدأت البنوك الإسلامية في الظهور، كانت الفكرة لدى المهتمين بالمصرفية الإسلامية آنذاك هو أن هذه البنوك ينبغي أن تهتم بالاستثمار طويل الأجل وأن تسهم في تنمية البلاد الإسلامية بصورة أفضل من البنوك التقليدية. هذا لم يحصل. ذلك لأن البنوك -إسلامية كانت أو غير إسلامية- تبحث في الغالب عن أعلى ربحية، مثلها مثل أي منشأة تجارية، والاستثمار قصير الأجل يوفرها بصورة أفضل من الاستثمار طويل الأجل. وكان من نتيجة ذلك أن أصبحت المرابحة هي الصورة السائدة، مما جعل التمويل المحض هو السائد، وليس الاستثمار بتحمل المخاطر. أي سيادة الطلب على العرض. وهذا التفضيل للمرابحة يتفق في روحه مع النمط السائد في البنوك التقليدية وخاصة أن غالبية المصرفيين العاملين في حقل المصارف الإسلامية أتوها من بنوك تقليدية، أو أن المصرفية الإسلامية تشكل جزءا من بنوك تقليدية تتعامل بالفائدة ففضلوا المرابحة على غيرها من الصيغ.
طبعا معروف أن المال جبان، ولذا يفضل أصحاب الأموال عامل الضمان لأموالهم، على المشاركة في الربح والخسارة، مثلهم في ذلك مثل أصحاب العقارات يفضلون التأجير على المشاركة لأسباب لا تخفى على القارئ. وهذا حقيقة ينسجم مع معايير ومبادئ السلوك الاقتصادي التي سبق أن ذكرتها، وهي معايير تفترض أن الناس يعظمون مصالحهم بما يرونه الأنسب. خلاف أن المودعين أصحاب الأموال يفضلون سهولة السحب من أموالهم على مساعدة البنك في القيام بدور استثماري، وهذا كله يتفق تماما مع المعايير والمبادئ التي يقوم عليها علم الاقتصاد.
قد يرى البعض بأن البنوك الإسلامية أسوأ من التقليدية لأنها تحصل على أرباح أعلى من التقليدية نظير خدماتها، وهذا – في نظري- متعلق بمدى قوة المنافسة في سوق المصرفية الإسلامية.
وباختصار، أنشئت المصارف الإسلامية لتؤمن للمسلم الخدمات نفسها التي تقدمها المصارف التقليدية، مع تفادي التعامل بالحرام حسبما يفتي به الفقهاء، وينتظر منها المسلم في الوقت نفسه أن يتقاضى عائدات مجزية لمدخراته كباقي المؤسسات المالية. ومن ثم لا يمكنها العمل على تحقيق هدفين لا يسيران معا: تحقيق الأهداف السابقة وفي الوقت نفسه التوسع في العمل الخيري أو مراعاة النفع العام أكثر مما تفعله المؤسسات المالية التقليدية, وبالله التوفيق.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي