تناذر التوصية في الجراحة

تناذر التوصية في الجراحة، بمعنى أن يتم الإيعاز للطبيب بالاهتمام المفرط بالمريض، قد يكون المدخل للكارثة الجراحية، كما سنرويها عن موت رئيس قسم للجراحة، بيد أفضل جراح، في أفضل جامعة في ألمانيا. وكل ذلك بسبب تناذر التوصية المشؤوم.
ونحن الأطباء نفهم خوف المريض، ومحاولته إثارة اهتمام الطبيب الزائد وحرصه المفرطين! ولكن كما يقول المثل الزايد أخو الناقص! ومخ العبادة التوسط. والعدل توازن الوجود.
وحين يأتينا عامل بنغالي مصاب بعشر إصابات، بدون عشر وساطات تسنده، ودرزن توصيات تحفه وترعاه، نرتاح للتعامل مع جسده، وأخوف ما نخاف التوصية والتهديد بالشكوى، فيتمنى الجراح أن لم ير المريض. وهي أجواء حقيقية في المشافي ولكن لا أحد يعترف بها.
إن أفضل الظروف النفسية لممارسة أي عمل هو قانون العضلات في الجسم، فلو تأمل أحدنا ذراعه لرآه بين الانبساط والانقباض، والقرآن أشار إلى الإنفاق، ألا تكون اليد في حالة القبض أو البسط، بالبخل والإسراف؛ فيقعد صاحبها ملوما بالبخل، محسورا بخسارة المال، الذي هو قوام الحياة.
وفي سورة الفرقان وصف الله عباد الرحمن، الذين يمشون هونا، والذين إذا أنفقوا لم يسرفوا ولم يقتروا، وكان بين ذلك قواما.
وكما انطبق قانون البيولوجيا على العضلات، والإنفاق في المال والاقتصاد؛ فهو في العقل كذلك، وأفضل التجليات الإبداعية، هي ما جاءت في ظروف نفسية ليست بطرا ورئاء النفس، ولا خوفا ورعبا وهلعا.
ويقول المناطقة والفلاسفة إن كل فضيلة هي وسط بين رذيلتين؛ مثل الشجاعة بين الخوف والتهور، والحكمة بين الشيطنة والجدبنة!
كذلك الحال في العملية الجراحية، فهي ما كانت لإنسان حيادي، بدون رابط من قرابة، وتوصية من مسؤول مهم، ومحسوبية من منصب رفيع، ورشوة من متنفذ مراب، وخوف من أمير وجنرال ورئيس، وطمع في مقام ووظيفة، ومنه ينصح بعدم إجراء العملية الجراحية لأهل الجراح وبيده، وهو ما فعلته مع ابنتي حين احتاجت إلى عملية جراحية؛ فسلمتها لزميلة في القسم. وأنصح به الزملاء، وخالف في هذا جراح القلب المشهور دبغي؛ فقام بإجراء العملية الجراحية بنفسه على زوجته، ثقة زائدة بالنفس، وعدم ثقة ناقصة بزملائه، فماتت بين يديه على طاولة العمليات؛ فلم تنهض من رقاد، وكانت درسا صعبا لكبريائه.
وبين يدي واقعة الشيف، رئيس قسم الجراحة من مدينة نوين كيرشن (Neunkirchen)، وتعني الكنائس التسع! في منطقة السارلاند، في الجنوب الغربي من ألمانيا، قريبا من الحدود الفرنسية، حين أصيب بديسك في ظهره، وأنا شخصيا اجتمعت به وأردت العمل عنده، هربا من أحد جبابرة الجراحة في مدينة فولفسبورغ، حيث مصنع السيارات الشهير.
فأوصى رئيس قسم الجراحة العصبية يومها البروفسور المشهور (هوتشنرويتر) أن يقوم أفضل مساعديه بإجراء العملية للشيف، تحت تناذر التوصية والاهتمام الزائدين؛ فانتهت العملية بكارثة مروعة، حيث إن الشيف المذكور كان نحيفا جدا، وأذكر ذلك حين اجتمعت به، فانزلقت يد الجراح من المنطقة في الظهر إلى العمق أكثر، ولأن الأورتا أبهر البطن والوريد الأجوف السفلي يمران تحت منطقة الديسك، فقد نزل المبضع في الأبهر البطني، ولشدة النزف وسرعته فلم ينفع قلب المريض على الطاولة ليرقد على ظهره، ذلك أن التداخل على الأبهر لا يمكن من الظهر، حيث كتلة العضلات الظهرية والعمود الفقري في المنتصف، فلم تنفع الحركة ولم ينفع فتح البطن السريع، ولا إرقاء النزف ولا مسك الأبهر، فقد خسر من الدم في جوف البطن ما فرّغ شرايين الجسم من كل محتواها؛ فدخل حالة الصدمة غير المرتجعة (Irreversible Shock) ولم يخرج بقدميه من المشفى، ولم يرجع إلى أهله. وانطبق عليه قول الرحمن؛ فلا يستطيعون توصية ولا إلى أهلهم يرجعون.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي