أسعار النفط .. العدالة ليست في قوى السوق!!
مستجدات السوق النفطية هي تفاعلها مع التصريحات السياسية هنا وهناك بأن سعر 70 - 80 دولاراً للبرميل عادل لكلا الطرفين المنتج والمستهلك. وليس من قبيل الصدفة أن تصل أسعار الخام إلى ما يقارب عشرة دولارات للبرميل منذ سنوات عدة، بينما اشتدت سخونة الأسعار لتلامس الـ 150 دولاراً للبرميل العام الفارط. الكل أرجع السعرين، وشتان ما بينهما، إلى قوى السوق!! فهل هذه الأسعار تعكس السعر العادل لهذه السلعة الاستراتيجية المهمة؟ المؤكد لا.
شهدت الستينيات الميلادية ظهور منظمة أوبك، حيث أعطت دولها قوة تفاوضية ما مكنها من خلال جهود أعضائها المميزين كالمملكة والجزائر بذل المزيد لتحقيق أهداف الكارتل، وذلك بالحفاظ على أسعار متوازنة إلى حدٍ ما من خلال العمل بنظام الحصص، حيث تمخضت هذه التجربة عن وجود كيان إنتاجي قوي يُحاور المستهلكين من خلال مصالح الطرفين المُتبادلة.
حري بنا الإشارة إلى أهمية النفط والتي تتزايد يوما بعد يوم كونه مصدراً عظيماً من مصادر الطاقة، وثانيهما لاستخداماته المختلفة في صناعات متنوعة تُغطي المجالات كافة. ولا أدل على أهميته السياسية من حرص الدول المستهلكة والمنتجة له على ضمان الإمدادات الكافية، فالبعض يعتمد أسلوب الحوار الهادئ الدبلوماسي من خلال إقامة علاقات قائمة على المصالح المشتركة للحصول على ما يحتاج إليه من هذه السلعة، والبعض الآخر يستخدم لغة التهديد والوعيد في حالة التفكير بالتأثير في أسعاره، لا بل التهديد باستخدام القوة لضمان الحصول على ما يحتاج إليه. تمتاز الصناعة النفطية وبمراحلها المختلفة بسيطرة عدد محدود من الشركات النفطية الكُبرى، حيث يوجد عدد قليل من المنتجين (احتكار القلة) يشكلون كارتل فيما بينهم، ويقابله عدد كبير من المشترين، فالسمة الرئيسة لهذه السوق هي تحقيق درجة عالية من التركيز الاحتكاري، بحيث يراقب المنتجون بحذر أسعار هذه السلعة ليتم اتخاذ القرار المناسب إذا خرجت الأسعار عن مسارها المحدد. قوى السوق قد لا تكون كافية لتحديد السعر العادل للنفط لسبب بسيط، وهو أن السوق تأخذ في اعتبارها عوامل أخرى غير العوامل الاقتصادية البحتة عند تحديد الأسعار، كالمتغيرات السياسية، البيئية، والاجتماعية كالإضرابات والقلاقل السياسية والطائفية. ولكي يعكس سعر برميل النفط السعر العادل هناك بعض المتغيرات الاقتصادية، والتي من المُفترض أخذها في الاعتبار حال تقييم الأسعار العادلة. وبإلقاء نظرة على هذه الصناعة، نجد أن القطاع النفطي يختلف عن بقية القطاعات التعدينية الأخرى، فهذه الصناعة تتطلب كما هائلا من الاستثمارات الرأسمالية، وعليه فإن معدل الإنفاق فيها عال خاصةً في المجمعات النفطية التي تتطلب وفرة الكهرباء والماء والغاز وخلافه. ومن المؤكد أيضاً أن الصناعات النفطية ومشتقاتها تتصف بالتقدم التكنولوجي الهائل، والذي يتزايد يوماً بعد يوم، خاصةً أن هذا التقدم تترتب عليه عمليات فنية معقدة تتطلب مهارات عالية، وفي المقابل نجد أنها تتطلب استثمارات هائلة في مجال البحوث العلمية والعملية لتطوير وتجديد عملياتها مع مراعاة ارتفاع درجة المهارات الإدارية والعمالية المطلوبة لتشغيل هذه الصناعة. وإذا كان هذا هو الحال، يتبين لنا اعتماد هذه الصناعة وبشكل كبير على الآلات ونسبة ضئيلة من العنصر البشري شريطة توافر المهارات العلمية والقيادية التي تتجاوب وبشكل سريع مع التطورات التكنولوجية المُتجددة لهذه الصناعة ولذا سيكون الاستثمار في هذا القطاع مرهقا لميزانيات الدول المنتجة. كذلك مصادر الطاقة الأخرى كالفحم أشد تأثيراً في البيئة، حيث إن هدف تحقيق التوازن الاقتصادي يتطلب التطابق ما بين الحاجات البشرية والمتوافر من الموارد اللازمة لتلبيتها، ولذا فالتلوث بأشكاله كافة ينعكس سلباً على تحقيق التوازن الاقتصادي، حيث إن الأمراض ونفقاتها وإزالة الآثار السلبية وتكاليفها ستؤثر في الإنتاج والموارد الطبيعية عامة. وليس بغريب أن النفط قابل للنضوب مع نهاية القرن الحالي، كما هو متوقع، واستنزاف هذه المادة المهمة في توليد الطاقة سيحرم الشعوب الاستفادة المدنية من استخداماته الأخرى، وبالمقارنة فإن الفحم الحجري يوجد بكميات كبيرة تكفي لمئات قادمة من السنين، مع العلم أن استخدامه الرئيس لا يتعدى توليد الطاقة الكهربائية، ولهذا فالسعر العادل للنفط يجب أن يأخذ في الاعتبار تكاليف البدائل وليس تكاليف الإنتاج، وهذه التكاليف في الغالب باهظة كالطاقة النووية. يضاف إلى ذلك أن الدول المنتجة للنفط تعتمد عليه في تمويل مشاريعها التنموية، فطبقاً لإحصائيات صندوق النقد العربي بلغت الصادرات العربية من الوقود المعدني نحو 69.6 في المائة عام 2003 لتصل إلى 75.4 في المائة 2007، بينما وصل إجمالي الواردات العربية من الآلات والمعدات والمصنوعات نحو 66 في المائة من إجمالي الواردات لعام 2007، بالتأكيد ستزيد تكاليف الواردات مع انخفاض أسعار الخام وارتفاع الأسعار العالمية. إن النقاط سالفة الذكر تؤطر لنموذج تتحدد فيه أسعار النفط ليس من خلال قوى السوق فقط، بل من خلال آلية تأخذ في الحُسبان مصالح الدول المنتجة بالدرجة الأولى من خلال العوامل العادلة المُحددة للأسعار مع مراعاة ظروف الدول النامية الساعية إلى تحقيق نموها المحلي ومن ثم العالمي فرفاهية الإنسان أينما كان.