العلاقات أكثر من الكفاءات

من عادتي أن أخرج لنزهة الفيلسوف كل يوم، كما كان يفعل الفيلسوف إيمانويل كانط، فكان الناس يربطون ساعتهم على خروجه. أما من حولي فلا يعرفون الزمن أصلاً!
ولم يتأخر الفيلسوف قط إلا في يوم واحد، حينما وقع تحت يديه كتاب جان جاك روسو عن التربية الاستقلالية فالتهمه في يوم ونيف. وهذه القصة رويتها لصديقي ونحن نخرج للتفسح على طريقة الفلاسفة الرواقيين، الذين كانوا يفضلون مطارحة الأفكار في الهواء الطلق في رواقات ممتدة طويلة للمشي.
وأتذكر من طفولتي عندما كنت أساعد والدي في عمله في الدكان، أنه كان في أيام العيد يبيع نوعا من السكاكر زهيد الثمن، رديئا قاسيا على العض، وكان هذا معروضا بوفرة في مقدمة المحل في أوعية كبيرة، في الوقت الذي كان يبيع من داخل المحل سكاكر فاخرة طرية المأكل أنيقة التغليف في علب جميلة فكنت أتعجب؟ وأنا طفل من ذلك فأسأله عن السر.
كان يقول لي: يا بني هذه السكاكر التي في الداخل كما ترى قليلة ليست مثل التي في الواجهة الكثيرة. فالموضوع ببساطة أن أهل المدينة عندهم من المال ما يشترون هذا الفاخر، أما أهل الريف فهم فقراء ولذا فهم يشترون الرخيص، ومحلنا لا يعيش على العائلات القليلة السمينة في المدينة، بل الكم الكبير من أهل الريف، الذين يستهلكون الكثير من هذه السكاكر الرديئة. وهي لنا رديئة، أما لهم فهي أجود من الجيد؛ فأسنانهم طاحنة، ومعدتهم هاضمة، وهم يكدحون طول النهار في الحقول. وكان سبب روايتي للقصة قول صديقي أن فلاناً لمع في الفضائيات وبدون أثارة من علم!
قلت له إن الانفوميديا رهيبة؛ فهي تلمع التافه، وترفع الوضيع، وتظهر الرقيع، الذي يجيد الثرثرة والترقيع!.
وفي الواقع فهناك من الثرثارات والثرثارين الكثير، من الذين لا يعرفون العلم، ولكنهم مصدر ثقافة القوم، لا يعقلون لأنهم (شاطرون) في الحكي، فالمفكر يعصر دماغه فيخرج الكلمات، والببغاوات تكرر الكلام بسرعة دون أن تفهم.
والمهم هو شكل يعجب الناس، وحنجرة تفرقع، وصوت عالي الطبقة يقرقع، ونفاق بدون حدود. وتملق «لو تدهن فيدهنون»! والبارحة تصفحت مجلة، لأن فيها مقالة لكاتبة لا بأس بها، وليس من عادتي تصفح المجلات؛ لأن الكثير منه سخف لغو ومضيعة للوقت، والكثير ممن يكتب لا يتعب على بحثه ومصادره، وليس في جعبته ذلك الزاد المعرفي.
كما أنه ليس من عادتي مشاهدة المحطات الفضائية، وكلما أصغيت إلى صياح وزعيق المتكلمين وتبادلهم الشتائم والتشكيك وتفاهة المعلومات وضحالة المستوى أتندم على الوقت الذي أضعته معهم.
وأعرف أن العالم العربي هذه الأيام قد كسفت شمسه، وخسف قمره من تاريخ العالم، ولذا فأنا في نهاية نهاري ألجأ إلى أبحاث العلم والكتب الفلسفية وعجائب مغامرات الأفكار، والبارحة وقبله كنت منصبا على بحث «رسالة في الطبيعة الإنسانية» لديفيد هيوم، الذي عاش في القرن السابع عشر الميلادي، فعلمت أننا نبتعد عنه بمسافة سبعة عشر قرنا!.
وأنا علمت نفسي ألا أبخل في العلم فأنفق بدون تردد وبسخاء لأنه أعظم استثمار.
والمهم فعندما تصفحت المجلة المذكورة وقع نظري على كاتبتين وأحيانا على كتاب ذكور حتى لا أتهم بالعنصرية، وأرى أنهم قد كتبوا، أو كتبن كلاماً نثريا على أساس أنه شعر حديث؛ فقلت في نفسي: لو أتينا بطالب ثانوية متوسط المستوى من أي مكان.. هل سيكتب أقل من هذا؟
إنها العلاقات على ما يبدو أكثر من الكفاءات.
وفي أمريكا قامت مجلة بتجربة فريدة، حين استقبلت المقالات مفصولة عن الأسماء، للتقييم واكتشاف أفضل المقالات. فوصلوا إلى حقيقة مزلزلة تقول إن الكثير من أناس مجهولين ومن شابات في مقتبل العمر ومن أوساط بسيطة كانوا هم أفضل من كتب فأبدع وسطر فأقنع!
والمهم.. فاليوم يقبل الناس على استهلاك التافه والرديء من المحطات الفضائية، كما كان والدي يبيع السكاكر الرديئة مضطرا، لأن هذا الذي يشتريه الناس، وعليه يقبلون وعلى حشفه يفطرون، ومن زاده يتغذون.
ولكن أكثر الناس لا يعلمون. «وما يؤمن أكثرهم بالله إلا وهم مشركون».

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي