ما المعرفة؟
حار الناس في صب قالب يضبط معنى المعرفة. ولعل أفضل جواب عن هذا السؤال الذي يجب أن يجاب عليه، ألا يجاب عليه.. ونقول: لا يوجد معرفة؛ لأنه لم يختلف الناس على شيء بقدر تعريف المعرفة.
ومنذ فلاسفة اليونان، ومرورا بحكماء الصين، ومعتزلة العصر العباسي وانتهاء بفلاسفة الوضعية، والوجودية والبنيوية وجماعة الحداثة، حاول كل منهم أن يضع صياغة مرضية لمعنى العلم والمعرفة؛ فطاش سهمه، وحار لبه، وحار الكل؛ فالجميع في ريبهم يترددون.
فأهل العلم يقولون إنها كشف القوانين العلمية، من تمدد المعادن بالحرارة، وتبخر الماء عند الدرجة 100 وتجمده عند الدرجة صفر مع التمدد خلافا لما عداه، وأن ذرات الأكسجين تسبح على شكل جزيئات، وأن النسبية تفيد بانضغاط الزمن كما ينضغط البلاستيك.
ولكن هل رأينا يوما أصبح 23 ساعة، أو شهرا تطاول إلى 33 يوما؟
وأهل الفلسفة يقولون إن كل معرفة تقود إلى جهل أكبر، في زاوية لا تكف عن الانفتاح.
ويذهب الفيلسوف زينون إلى قول يخلخل العقل ولا يصدق، ولكنه مبرهن بالرياضيات بنظرية نصف النصف؛ فيقول إن السهم الذي يطير لا يطير، وإن أخيل البطل اليوناني لو مشى خلف السلحفاة لم يسبقها قط، مما يجعلنا نصاب بالدوار ونقول إنه قطعاً يمزح، ولكن الرجل قالها بمنتهى الجدية منطلقا من مفهوم رياضي راسخ، سبب حيرة للعلماء ومازال، وليس الأمر مزحة.
والفكر الديني يقول إن الناس يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون، وهو كلام صحيح حسب زاوية النظر؛ فمع الشيخوخة ومواجهة المرض والموت يبقى عزاء الدين أقوى من كل شيء.
ويروى عن الرئيس الفرنسي ميتران أنه لما أيقن بأن الموت أصبح أقرب إليه من شراك نعله؛ استدعى جزائريا هو صديق ابنته، كي يشرح له المفهوم الإسلامي عن الآخرة والجنة والنار؛ فلم تشبعه الفلسفة الماركسية، ولا شروحات الوجودية، ونفاق السياسة، كما لم تطفئ ظمأه كل مدارس الحداثة، ومعاهد العلم المتقدمة.
وذهب الدكتور محمد كامل حسين) وهو طبيب أرثوبيديا أي جراح عظام)، في كتابه"(وحدة المعرفة" إلى محاولة اكتشاف قانون، يضم المعرفة في كل مستوى؛ فقال إن هناك نظاما في الكون، ونظاما في العقل، والمعرفة هي مطابقة هذين النظامين، وهي ممكنة، لأنهما من مصدر واحد، ولو لم يكن ذلك ممكنا لكانت المعرفة مستحيلة، بدليل تحقيق الإنجازات الكثيرة من خلال هذه الجدلية؛ فلم نكن لنصعد إلى السماء بالمصاعد ضد الجاذبية، والجاذبية بدورها لغز لو لا الكهرباء. ولكن ما الكهرباء؟ يقولون إنها تيار إلكتروني، ولكن ما الإلكترونات؟ إنها كائنات غامضة تعمل بما يذكر بجن نبي الله سليمان، "يعملون له ما يشاء من محاريب وتماثيل وجفان كالجواب وقدور راسيات"، ويقولون عنها إنها شحنة سلبية، ولكننا لم نرها، ولا يمكن قياسها حسب نظرية ميكانيكا الكم في الارتياب التي وصل إليها الفيزيائي والفيلسوف الألماني فيرنر هايزنبرغ، فإن استطعنا تحديد مكان هذا الشبح ضاعت عنا خطوات قدميه، وكم السرعة التي يمشي بها، والعكس بالعكس؛ فإذا لحقنا أثره، وعرفنا سرعته، ضاع عنا رسمه فلم نعرف مكانه بل تحول إلى شبح لا يرى ولا يجس! إنها معلومات أشبه بالطلاسم، تتملص من قبضة اليد، مهما حاول الإنسان الإمساك بها، ولكنها هي ما وصل إليه العلم، أما علي الوردي فقد وصف العقل في كتاب كامل، بأنه مهزلة بشرية، واعتبره أنه لا يزيد عن ناب الأفعى وقرن الثور ودرع السلحفاة وساق النعامة!! بمعنى أنه أداة للبقاء، أكثر منه لاكتشاف الحقيقة، وأما دعوى العدالة والحق وما شابه؛ فهي كلمات يلوكها الناس، ليس من أجل الحفاظ على القوانين، بل لكسر القوانين من أجل مصالحهم.