شجون المسجون وفنون المفتون

لماذا ينتحر الإنسان؟ وما هي فلسفة الانتحار؟ وأين هي أكثر المناطق ازدحاما بالانتحار؟ وأي نوع من الناس ينتحرون؟ وما هي خريطة الأعمار والجنس؟
أهم ما أريد قوله في ظروف الانهيار المالي العالمي الحالية، أن نفتح عيوننا على ارتفاع معدلات الكآبة وإمكانية تورط الشباب في هذا اللون من التفكير.
إن الإحصائيات الألمانية تقول إن من مات عندهم في سنة 2007م بلغ 9402 شخص، وهو رقم تناقص عما سبق، وهو يشكل ثالث سبب للموت عندهم، ولكنهم يقولون في نفس الوقت إن عدد المحاولات التي لا تكلل بالنجاح هي عشرة أضعاف هذا الرقم، أي أن عدد محاولي الانتحار يقترب من مائة ألف ابن آدم في العام الواحد.
ويقول التقرير أيضا إن من تظهر عنده بوادر وكتابات وتأملات الموت يجب أخذ وضعه على محمل الجدية، فقد يحاول وقد لا ينجو.
وأفضل من يتقن مهنة الموت هو الطبيب ولذا كان الأطباء في قائمة المنتحرين في ألمانيا، وأذكر من صديقي الدكتور حسن كيف جاءته مريضة ألمانية مصابة بالسرطان تريد إنهاء حياتها بعد أن أنهت واجباتها في الحياة، فأبى وقال مهمة الطبيب الحياة وليس الموت، ومهمة الديكتاتوريين القضاء على الآمال والحياة.
وفي النهاية استطاعوا الوصول إلى معلومة تقول إن حقن الأنسولين تؤدي للوفاة ففعلوها وماتت في ليلة طويلة حافلة بالانتظار..
وهذا يقول لنا إن الوضع عندنا يجب فهمه في ظل الأوضاع الاقتصادية الصعبة حاليا في العالم وقد نخسر أفرادا عزيزين علينا إلى المقابر والبلى.
لقد اختصرت مجلة دنيا المعرفة الألمانية البحث بجملة مفيدة؛ إن معدلات الانتحار في العالم تختلف جدا من بلد إلى بلد ولا يوجد شرح واضح لهذه الظاهرة الإنسانية المتفردة الغريبة.
وحين سقطت الطائرة الفرنسية 330 يوم 1 يونيو 2009م في عرض المحيط ذهبت التحليلات مذاهب شتى، ولكن لم أسمع من أحد احتمال جنون الطيار تحت كآبة شديدة فقام بالانتحار الجماعي من دون رسالة وصوت!
إنه مجرد احتمال!!
والأمر الثاني لقد انتحر سقراط بشرب سم الشوكران مثل سم السيربيرين السريلانكي، ولكنه لم يكن انتحارا بل حكم بالإعدام فتقبله ولم يخف ولم يتراجع ولم يكن كئيبا ولا حزينا واستمر يدرس تلامذته الحكمة حتى أسلم الروح، ذلك أنه كان يرى الموت والحياة وجهين لحقيقة واحدة، فالحياة تتدفق من الموت في كل لحظة، والموت ينتشر من الحياة في كل لحظة، والموت والحياة كلاهما مخلوقان، وتبارك الذي بيده الملك وهو على كل شيء قدير الذي خلق الموت والحياة ليبلوكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور.
وإذا كان الموت والحياة صورتين لحقيقة واحدة فلماذا الخوف منه كما كان يقول ابن العربي في كتابه شجون المسجون وفنون المفتون:
" يا هذا أخطر ببالك كأنك تشاهد نفسك مجرد خالصة في أمن لا خوف فيه، وغناء لا فقر يليه، وقوة لا ضعف يخالجها، وقدرة لا عجز يمازجها، وعز لا ذل معه، وبقاء لا موت يقطعه، وكمال لا نقص يعيبه، وجمال لا شين يشوبه، في ساحة لا أفق لها، وراحة لا نصب فيها، وهي ملتذة بذاتها لذاتها، تنظر بنور لازم، وسرور دائم وعلم مستقر وشهود مستمر ونعيم مقيم وأمر عظيم. فكيف ترضى بعد هذا المقام في دار الآلام، وتقنع بظل زائل، ولهو عاجل، وتستلذ سما قاتلا في عيش باطل، مع صحبة الأموات، والتقيد بالفانيات، وعشرة الأضداد، والانهماك في الفساد، فعد عن هواك وأوي إلى إياك، فما غيرك يرضيك، ولا فرصة لك إلا فيك".

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي