عيوب اللغة

مازلت أذكر زيارتي للفيلسوف محمد عنبر وكان مريضا يومها فتحدث عن أصل اللغات، وقال إننا لو وصلنا إلى أصل اللغات فتح الكون خزانة أسراره لنا وعرفنا كل شيء، وبالطبع فهذا وهم، فاللغة شيء مستحدث صناعة وهي آلة مليئة بالعيوب والتشوهات.
والشيء نفسه ينطبق على شحرور الشامي الذي كتب عن القرآن والكتاب مستخدما آلة الكلام فأصبح يخرج لنا مثل حاوي السيرك أرانب بيضاء من قبعات سوداء.
ولو كان مفتاح الأسرار اللغة لبقيت لغة واحدة ولما تنازع الناس حول التفسيرات، فهذا منعطف حاسم وخطير.
وفي يوم توصل الفيلسوف النمساوي فتجن شتاين إلى أن اللغة لاتزيد عن لعبة، أما ابن خلدون فقال إياك والتعلق بالكلمات، بل حرر المعاني ثم اكسها من الألفاظ ماتشاء.
واللغة مخبر فاسق فوجب التحري والتأكد من الأخبار التي عللها في رواتها، ويظن بعض الناس أن اللغة تدل على نفسها بنفسها من أي شيء آخر، وهذا وهم.
وعندما يقول أحدهم هذا الكتاب جيد؛ فيظن أنه وضح كل شيء، وهو في الواقع لم يوضح شيئاً. وأتذكر أنني يوماً في سيارة صديقي أبو حسن وسألته عن كتاب (عندما تغير العالم) تأليف جاك بيرج، وهو كتاب أكثر من رائع أهديته يوما أيضا لصديقي أبو عبد الرحمن مدير عام الشؤون الصحية حين أعجب به، وهو كتاب ترجمته ليلى جبالي ونشر ضمن سلسلة عالم المعرفة.
قال لي يومها صديقي نبيل: الكتاب رائع!!
قلت له يا صديقي لم تتقدم بالشرح خطوة؛ فكلمة رائع وممتاز لا تعني شيئاً.
تعجب الرجل وأراد المزيد من الوضوح.
قلت له كان بإمكانك إفادتي بجملة أو فكرة، ولو ذكرت لي كيف توصل ديكارت إلى الهندسة التحليلية من وراء طنين ذبابة، وهو في مجلس الكاهن مارسين، أو لو حدثتني عن كشف قانون البندول الذي اهتدى له جاليلو وهو يراقب دخول الهواء إلى صالة، أو لو حدثتني عن الفلسفة الوضعية التي قال بها أرنست ماخ؛ لأفدتني أكثر من كلمة رائع وممتاز وعظيم.
تغير لون وجهه وشعرت بأنه استوعب الدرس.
وكان يقول لي أنا لم أفهمك لمدة ثلاث سنوات عندما كنت تحدثني عن ديكارت والغزالي وابن سينا وسبينوزا وشوبنهاور وهيجل وديكارت ولكنني أدركت الآن أن ما تقوله يدخل في تفصيلات الحياة كلها. وإنك والله تكسر أقفال العقول المغلقة.
"أم على قلوب أقفالها".
وعيوب اللغة هي ثلاثة: التعميم والحذف والتشويه.
فأما التعميم فنحن يومياً نقول إن الأسعار ارتفعت، ولكن هل ارتفع سعر كل شيء فعلاً؟
وأما الحذف فعندما نقول فلان أجريت له عملية جراحية، ولكن طار من الخبر تفصيلات لانهائية من أجرى العملية؟ ومتى جرت؟ وما العملية؟ ولماذا أجريت بالأصل؟ وفي أي مشفى؟ وهل انتهت بدون عقابيل؟
وهذا يذكرني بالألمان الذين يعشقون التفصيلات. فعندما كنت أسال موظف البنك عن سعر المارك مقابل الدولار - وهذا قبل ولادة اليورو - كان يعطيني الإجابة بأربعة أرقام بعد الفاصلة. ويأخذ أموره في غاية الجدية.
كما لاحظت عليهم الاهتمام بتفاصيل العملة مثل السنت، وكل غرض يعالج بسعر تفصيلي لم نعتده نحن، وإنما نقول ربع ونصف.
أما هم فهناك تفصيل للسنت، وهو موجود فيزيائياً، وأدركت أن هذا هو سر قوة اقتصادهم.
وكما يقول المثل الأمريكي انتبه أنت للسنت، أما الدولار فيتولى بنفسه.
وهو يقصد أن الانتباه في التوفير يأتي من الأشياء الصغيرة.
وفي يوم كنت أخطب الجمعة فلما انتهيت اجتمع لي رهط من الناس يستحسنون كلامي ثم تقدم واحد فقال لقد أبدعت في كلامك. قلت له عم كنت أتحدث؟ قال بالطبع كنت تتحدث عن الإسلام. وهذا يرجعني مرة أخرى إلى مشكلة عيوب اللغة.
"ذلكم قولكم بأفواهكم" والله يقول الحق وهو يهدي السبيل.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي