عند التناهي للقضاء والقانون يتقاصر تطاول صيرفة الحيل
نقلت جريدة "الاقتصادية" (هذا الأحد) خبر شركة الطاقة المفلسة (إيست كاميرون) وأن هناك بوادر أولية على فقدان حملة الصكوك المتعثرة لحقوقهم، وذلك عبر توجه القاضي نحو تفضيل حصول الدائنين أولا على حقوقهم قبل حملة الصكوك. ثم أرجع الخبر السبب في ذلك إلى "القضاء العلماني" الذي تكون له رؤية مختلفة عن الجوانب الشرعية لهذه الأدوات الإسلامية، على حد تعبير الخبر. وأقول لو كانت هذه القضية عندنا لما تجاوز قضاؤنا الشرعي ذلك في أفضل السيناريوهات بالنسبة لملاك الصكوك, هذا إن لم يضف على ذلك عقوبات على الشركة وملاك الصكوك على تلاعبهم في أحكام الله واتخاذهم الدين هزوا ولعبا.
كنت قد كتبت سابقا في الصكوك, وأوضحت أنها تماما كالسند مع إضافة بعض التسميات التي ليس لها أثر شرعي ولا قانوني مخالف للسند، اللهم إلا التهرب من الزكاة والخلط والإيهام على بسطاء الناس. وما يدعيه أهل الصكوك من ملكية ومشاركة لا وجود له في الواقع. وما هي إلا مثاليات وأحلام أشبه ما تكون بوعود الاشتراكية أو بمدينة أفلاطون الفاضلة، وهي للشيوعية أقرب لأن أحلام أفلاطون لم تتعد كتاباته، بينما ضرر الصكوك تجاوز الأحلام فنال من دين الأمة ودنياها. ولو أن ما يدعونه كان صحيحا (كما طالب به الشيخ محمد تقي عثمان) لأصبح الصك نوعا من أنواع الأسهم الممتازة preferred stock. والأسهم الممتازة أنواع, وما يطالب به الشيخ محمد تقي عثمان (والذي لا وجود له على أرض واقع الصكوك) هو نوع من أنواع الأسهم الممتازة الذي لا يختلف عن السهم العادي إلا في ثلاث نقاط وهي: 1. ليس لمالك الصك حق التصويت والإدارة. 2. له ضمان ربح سنوي بشرط إذا ربحت الشركة على أساس النسبة والتناسب. 3. أنه يأتي بعد السند وقبل السهم في الحقوق عند تصفية الشركة في حال إفلاسها. والذي لم أذكره سابقا لضيق مقام المقال هو أن تعريف الصك في جميع الأحوال يضعه في مرتبة ثانية بعد السندات في تحصيل الحقوق عند إفلاس الشركة أو دون ذلك.
القضاء الشرعي لا يعترف بالتسميات والتعريفات إذا كانت حقيقة الشيء تخالفه وكان أمرا محرما أو باطلا كربا أو بيع باطل، لذا فالمتوقع، والله أعلم، أن يتعامل قضاؤنا مع الصكوك تعامله نفسه مع السندات سواء بسواء. وعلى كل حال فتسمية الشيء وتعريفه المجرد، وإن كان لا يغني شيئا في التحريم والتحليل، إلا أنه مؤثر من حيث الأحكام القضائية عند القانونيين, ومن الممكن أن يكون كذلك عند قضائنا الشرعي في حالة إقراره بالتعريف الرسمي لها.
وعليه فسأقتبس هنا تعريف الشيخ عبد الله بن منيع ـ حفظه الله ـ للسندات والصكوك الذي أورده في زاويته المباركة في جريدة "الوطن"، حيث قال في تعريف الصكوك "أما الصكوك فالمقصود بها الصكوك الإسلامية, وأحدها صك وهي تملك وحدة استثمارية في موجودات قابلة للتداول بيعا وشراء وتأجيرا وتسويقا وغير ذلك من المنتجات الاستثمارية" انتهى. وقال في تعريف السند "أما السندات فهي جمع سند وتعريفه الاصطلاحي الاقتصادي أنه ورقة ثبوتية لمديونية معين مقدار مبلغها, وهي دين لحامل السند على مصدره لمدة محدودة" انتهى.
ولما كان الصك كما جاء في تعريفه عند الشيخ عبد الله هو ملكية (وإن كان هذا غير صحيحا لعدم زيادة قيمته عند زيادة قيمة الأصول المنسوب إليه)، والسند دين كما جاء في تعريف الشيخ، حفظه الله، المعتمد عنده، فعليه فإن ملاك السندات أصبحوا دائنين لملاك الصكوك, وعليه فأهل السندات أحق بأصول الشركة من غيرهم, وحقوق ملاك الصكوك مباحة لهم كحقوق ملاك الأسهم. ولكي تتضح الصورة فلنضرب مثلا بشركة مقاولات يملكها عباد الله واحتاجت الشركة إلى تمويل فتمولت عن طريق بيع سندات. ثم احتاجت الشركة مرة أخرى إلى تمويل فتمولت عن طريق الصكوك (أيا كان نوع الصكوك على اختلاف مسمياتها الدعائية الشكلية) فإن حملة الصكوك بحكم التعريف السابق (لا الحقيقة) سيدخلون على الشركة "كملاك ملكا مشاعا" سواء في أصولها أو في بعض أصولها على حسب التسمية الدعائية للصكوك. ولنفترض أنه حصل أمر الله، وأفلست شركة عباد الله للمقاولات. فحينئذ سواء كان شرعا أو قانونا، فالدائنون الذين هم ملاك السندات هم الأحق بممتلكات الشركة من ملاكها الذين منهم ملاك الصكوك.
وعند التأمل، فإنه لا توجد هناك طريقة لتقديم حملة الصكوك على حملة السندات عند التصفية إلا برهن ملك معين في شركة عباد الله أو بامتلاك حقيقي وكامل لا صوري (وغير مشروط باسترجاع بالسعر الأصلي) لمعدات ونحوها ومن ثم تأجيرها على الشركة، وهذا موجود ولكن ليس في باب الصكوك. فخرط الصكوك وخريطها ينطلي على البسطاء من الناس وليس على القضاة شرعيين كانوا أو قانونيين.
والذي جعلني ألغي مقالي الذي كتبته لهذا الأسبوع وأبدله بهذا المقال على عجل هو الإخراج الإعلامي للخبر، الذي يوحي بأن النظام القضائي العلماني لأمريكا هو السبب! فلو أن القضية حصلت عندنا (ولنفترض، لا سمح الله، أنه حدث لشركة سابك وهي شركة "مختلطة! " على حد زعمهم) لأعطى قضاؤنا حملة السندات حقوقهم قبل حملة الصكوك إذا اعترفوا بشكلية وصورية هيكلة الصك كما نص عليها الشيخ عبد الله بن منيع ـ حفظه الله ـ وأما إذا اعتبر قضاتنا حقيقة الصكوك فالقضاء الشرعي لن يرى فرقا بين الصك والسند إلا في المسميات فكلاهما دين على "سابك" فسيساوى بينهما في تحصيل الحقوق بعد تصفية الشركة.
وقد ورد في الخبر تعليق الدكتور محمد القري ونصه "إحدى الإشكاليات التي ظهرت هي مسألة الإلزام بالشراء. فبعض (مستندات الصكوك) تقول إنه إذا تعثر مصدر الصكوك في دفع الأجرة في وقتها المحدد، فإنه يلتزم بشراء الأصول. وكان يظن أن هذا الشرط في صالح حملة الصكوك لأنه يخرجهم من المشكلات المرتبطة بالتعثر". ويواصل "فعلى سبيل المثال، عندما تعثر أحد مصدري الصكوك في دفع الإجارات للأصول التي يملكها حملة الصكوك، فإنه بادر بشراء هذه الأصول وأصبح حملة الصكوك دائنين لمصدر الصكوك. وبطبيعة الحال أصبحوا أسوة الغرماء مع دائنيه الآخرين. مع أن موقع حملة الصكوك هو أقوى من الدائنين الآخرين، نظرا للأصول التي يملكونها. وبدلا من أن تقوي هذه النقطة موقع حملة الصكوك في حالة تعثر المصدر، أسهمت في إضعاف مراكزهم أمام المصدر عندما تعثر" انتهى نصا من الخبر.
وأقول بل ما حدث هو خير لهم وأنفع. فقد حولهم من ملاك صوريين إلى دائنين يتقاسمون أصول الشركة معهم. وانظر أخي المسلم كيف جعلوا من الإسلام هزوا ولعبا. فالشركة تبيع ملاك الصكوك بئرا أو عمارة بيعا صوريا بشرط الاسترجاع عند انتهاء فترة الصك بالقيمة نفسها التي باعته إياها بغض النظر عن ارتفاع قيمة هذا الأصل، على أن الأصل لا يزال في موجودات الشركة, ومسجل رسميا في ملكها، ثم تستأجره منهم وتدفع لهم سعر الفائدة المتعارف عليه لا قيمة الإيجار الذي يستحقه. وأضيف هنا أن الشركة تشتري الأصل بالدين مرة أخرى إذا عجزت عن دفع الإيجار ( أي أنها إذا فلست). وهذا الشرط الأخير أعتقد، والله أعلم، أنه أضيف من محامي الشركة ليس لحماية ملاك الصكوك بل لحماية الشركة من عقوبة الهزل واللعب في الملكيات واستغلال المستثمر الذي لا يرضى به القانون الأمريكي.
المنظرون للصيرفة غير التقليدية أدخلوا أسماء ومسميات ليست بحيل ذكية فيُشاد بها وبدهاء أصحابها ولا هي بحقيقة فيعترف بها، بل هي لا تعدو أن تكون ألفاظا غريبة ليس لها غرض في الواقع إلا الإيهام والخلط والتلبيس تنهار سريعا أمام القانون وستنكشف أمام القضاء الشرعي عند حدوث أي قضية مماثلة عندنا كما انكشفت في أمريكا وبريطانيا من قبلها. ولنقف وقفة حق ندين الله بها يوم القيامة ونحن جُثي تحت العرش فنتفكر في الصكوك وما هي دينا ودنيا؟
أما دينا فقد أوضحت كثيرا أنها كأخواتها من منتجات الصيرفة غير التقليدية لا ترقى في حبكها وحقيقتها حتى إلى حيل أصحاب السبت. وأما دنيا واستثمارا فالصكوك تحمل مخاطرة الأسهم في حالة الإفلاس كما رأينا ولكنها لا تنال نصيبا من نمو الشركة إذا نمت الشركة أو زاد سعر الأصول المنسوبة إليها، فلا هي تزداد قيمتها بذلك النمو ولا عوائدها تزداد بزيادة قيمة الأصول، فعليها غُرم السهم وليس لها غُنمه، فما أشبهها بعنترة بن شداد يغشى الوغى ويعف عند المغنم، وهكذا حال المسلمين عندما يسلمون عقولهم لمن يلعب بها. وأما إذا قورنت الصكوك بالسندات فسنجدها أقل عائدا من السندات وأعلى مخاطرة من غير فرق إلا تصديق "هيئة شرعية" مدفوع لها الأجر بسخاء.
والصكوك في الغرب لا تباع إلا لشركات مفلسة لم تجد مَن يشتري سنداتها فأتت بشيوخ الصيرفة غير التقليدية ودفعت لهم الأجرة وأجزلت لهم العطاء لتصرف سنداتها ذات المخاطرة العالية على بسطاء أمتنا بأسعار منخفضة. وهكذا الحال عندنا وفي العالم الإسلامي لا يلجأ التجار في الغالب إلى الصيرفة غير التقليدية إلا لتحقيق كسب مرتفع عن مثيله أو لتصريف شركات خاسرة أو مفلسة، وعلى من؟ على البسطاء الذين وضعوا ثقتهم فيمن ينصب هذه الفخاخ لهم.
إلى متى لا يفتأ قومنا عن خداع أنفسهم ومن ثم رمي جهلهم وظلمهم لقومهم على غيرهم من الأمم ممتطين الدين مركبا لهم لخداع البسطاء ولقمع كل ناصح أمين ولترغيب كل طامع في نفوذ أو جاه أو مال. الصكوك كأخواتها من منتجات الصيرفة غير التقليدية ليست من دين الله في شيء من قريب أو من بعيد، وما هي إلا وسيلة دعائية إعلامية تتلاعب بعواطف المسلمين لنهب أموالهم. فأين العلماء والدعاة عن الصيرفة التي تتخذ من آيات الله هزوا ولعبا؟ وأين أجهزة الدولة التي تحمي المواطن من الدعاية المضللة؟ وأين حماية المستهلك؟ وأين حزم مؤسسة النقد؟ وأين توعية هيئة سوق المال؟
رب وامعتصماه!