الثقافة والوعي كمُحرك للتنمية الاقتصادية!!

لعله ليس من قبِيل المصادفة أن تعني مفردة ثقافة في اللغة اللاتينية الفلاحة، وهي عملية مقصودة ومشروطة بممارسة الإنسان عمله كونه صاحب التجربة وأداة التنفيذ. وبالرغم من تشكل الثقافة من المادة والروح إلا أن ارتباطها بالإنسان جعلها مختلفة عن نتاجات البشرية الأُخرى، فهي مجموعة من القيم المادية والروحية تتشكل منها بيئة الإنسان العلمية والعملية، فالظروف الحياتية المختلفة الزمانية والمكانية تعرك الإنسان وتضعه على المِحك ويكون من نتاجها ثقافة هو صانعها، وهذا ما يجعلها تحصر المُنجزات الإنسانية كأنماط الحياة، التفكير، السلوك البشري، العادات... إلخ، وتكون سهلة الانتقال من السلف إلى الخلف وقد تندرس ولا يتبقى منها إلا المعالم الرئيسية فقط. وبالرغم من أن لكل زمان ومكان ثقافة خاصة به إلا أنها تبقى متجذرة في الإنسان حيث تتبلور لديه نماذج للتفكير والسلوك ارتبطت به وأصبح وفياً لها، ما جعله يلبس أثوابها بل هي تُفصلها على هواها، وبذلك يُصبح التغيير من ثقافة إلى أخرى عُرضة لمجموعة من التحولات الجذرية في السلوك الإنساني. لقد أدى الاعتقاد بإمكانية تطبيق ما هو قائم في الدول المُتقدمة من أنظمة وقوانين وتشريعات التي هي نتاج ثقافات شعوبها، إلى بروز الازدواجية الاجتماعية، وهي الحالة التي يعيشها المجتمع بسبب وجود تعارض ما بين النظام الاجتماعي السائد، الأعراف، التقاليد وما بين النظام الاجتماعي المُستورد الذي هو تعبير عن نظام اقتصادي متقدم ومعاصر، فكل نظام اجتماعي يُمثل سيادة أفكار اقتصادية، وعليه فإن الفكر الاقتصادي السائد خارجي ويتعارض مع الكثير من المفاهيم والأعراف الاجتماعية ويخلق نوعاً من المد والجزر ما بين النظامين الاقتصادي والاجتماعي وينعكس سلباً على أداء الوحدات الاقتصادية. فالعلاقة بين الثقافة والنظام الاقتصادي والاجتماعي تبدو جلية من خلال احتقار العمل اليدوي الذي كان سائداً في المجتمع اليوناني آنذاك لسبب بسيط وهو تقسيم المجتمع إلى أحرار يتأملون المجتمع وينظرون له من قمة شامخة، وعبيد يكدحون ليل نهار من أجل الخدمة وزيادة الإنتاج. أيضاً، فإن سيادة التنافسية والفردية في الاقتصاد إنما هو انعكاس للأوضاع الاجتماعية الجديدة للرأسمالية في القرنين الثامن عشر والتاسع عشر الميلاديين، كما أن الاشتراكية أثرت في روح الالتزام الجماعي والتدافع لخدمة الجمع على المستوى الاقتصادي، كون الاشتراكية تعبير عن الملكية العامة، ولعل ظهور النازية في ألمانيا وامتدادها لأوروبا وما خلفته من عرقية وسيادة الأخلاق اللا إنسانية ليست منا ببعيد. أما الوعي فهو انعكاس للأوضاع الاجتماعية والطبيعية بما يشمله من أفكار ورؤى ووجهات نظر، وعلى هذا نجد أن الوعي هو الأداة التي من خلالها يستطيع الأفراد توطيد المفاهيم والعلاقات الاجتماعية. نخلص من هذا، إلى أن هناك علاقة مُتبادلة ولا تنفصم ما بين الثقافة والوعي من جهة، وبين الواقع الحياتي من جهة أخرى، على أساس أن الثقافة والوعي يتشكلان ويتطوران خلال الممارسة فهما كذلك يُشكلان التحولات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية ويسعيان إلى تحقيق التحول في عملية التنمية على كافة المستويات. إن المسألة لا تقف عند هذا الحد، فقصور الثقافة والوعي دون مستلزمات المرحلة التنموية الراهنة وعدم استيعابها بكامل أبعادها ومراحلها سيؤدي إلى عرقلة حقيقية لعملية التنمية التي نسعى إلى تحقيقها من خلال عدم التنفيذ الدقيق للخطط التنموية وارتفاع مُعدلات الاستهلاك على حساب الادخار (الاستثمار)، وكذلك من خلال العمل الروتيني وفقدان الإبداع، تقديس الأوضاع الاجتماعية التقليدية التي تنتقص وتزدري العمل اليدوي والمهني، وعدم القدرة على تحمل المسؤولية... إلخ. أن هذا الاتجاه يرجع في أساسه إلى ثقافة المجتمع السائدة، التي من معالمها البارزة اليوم سيادة الثقافة الاستهلاكية وقصور الوعي الادخاري ، وهذا مرجعه لأسباب كثيرة منها الاقتصادية والضغوط الاجتماعية، وللتدليل على ذلك، ففي عام 2005م كانت نسبة الإنفاق الاستهلاكي إلى إجمالي الناتج المحلي في حدود (50) في المائة بينما هي لإجمالي تكوين رأس المال الثابت تقريباً (16) في المائة لذات العام متضمنةً أكثر من (2) في المائة للتكوين الرأسمالي للقطاع النفطي، علاوة على ذلك فقد ارتفعت قروض بطاقات الائتمان من (2.5) مليار ريال عام 2003 إلى نحو ( 9,5) مليار ريال عام 2008م، كذلك ارتفعت القروض الاستهلاكية (باستثناء التمويل العقاري) من (68) مليار ريال عام 2003م إلى نحو (168) مليار ريال في الربع الثالث من عام 2007م، بينما زادت واردات القطاع الخاص المُمولة عن طريق المصارف من نحو (65) مليار ريال عام 2003 إلى نحو (173) مليار ريال عام 2008م، ما يعني أنها تضاعفت أكثر من (2,6) مرة خلال خمس سنوات وتشمل في غالبيتها سلعا استهلاكية. هذه الزيادة والأرقام تعكس ضخامة الإنفاق الاستهلاكي بالمقارنة بالإنفاق الاستثماري في الأصول الرأسمالية الثابتة اللازمة للتنمية والذي سيكون على حساب الادخار ما يدفع الدولة في العادة للتدخل لتعويض هذا النقص على المستوى الكلي. ومع يقيننا الكامل بضعف تأثير المُعجل على بقية القطاعات الاقتصادية بسبب ضعف القطاعات الإنتاجية والزراعية وصغر حجمها حيث سيؤدي في النهاية إلى زيادة الاستيراد الخارجي. مثل هذا الوضع الاجتماعي والثقافي يحتاج إلى استراتيجية توعوية تعتمد على التغيير الاجتماعي والاقتصادي على المستوى الوطني وليس النخبوي مع العلم أن الطريق طويل ويحتاج إلى تضافر كافة الجهود من خلال المؤسسات الدينية، التعليمية، والتوعوية الثقافية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي