رق التبعية لمفاهيم الغرب العتيقة
ما زال هذا الدين بثبات صحة مبادئه وانتظام أحكامه، لا تناقض ولا اختلاف، يتحدى عقول العباقرة والمفكرين من المسلمين ومن غيرهم, ويثبت جيلا بعد جيل أن الخلل لا يكون في أحكامه، وإنما أبدا يرجع إلى فهم الإنسان القاصر وعجزه عن الإدراك وفهم الأمور المستجدة والذي يدفعه الجهل بها والعجز عن فهمها إلى التعلق بما هو موجود في يده رغم تغير المعطيات والحيثيات, ثم لا يلبث أن يتحول ذلك الفهم الجامد إلى ثوابت تنسب ظلما وجهلا إلى دين أو عرف ينظر له المقلدون ويقاتل دونه البسطاء ويستغله قلة ذكية في تحقيق النفوذ والجاه والثروة. وفي هذا العصر، عصر تفجر العلوم الإنسانية التطبيقية، تواجه أمتنا أنواعا منوعة من ذلك. تجاوز العالم الحديث الثورة الصناعية وما أتت به من شيوعية ورأسمالية, وتجاوز العالم نظام الذهب الذي كان قيدا على نمو الإنتاج بعد ظهور الآلة، وظفرت أمريكا بنصيب الأسد من النظام الحالي، وحُق لها فهي من ابتدعته، ''ومن قتل قتيلا فله سلبه''. والقوى الاقتصادية العظمى الآن تتنازع على زعامة نظام مالي جديد مرن يحقق للعالم بُعدا اقتصاديا تطبيقيا آخر، وأمتنا قاعدة تجتر في أحلامها الوردية بقيادة العالم وتنظر لذلك بتكرير وإعادة واستحضار ترجمات الأدبيات الغربية لاقتصاديات القرن التاسع عشر.
الثورة الصناعية جاءت بمقدرة هائلة على الإنتاج تستطيع تلبية الطلب المتنامي طالما أن هناك مقدرة من المستهلك على الدفع، ومن هنا ظهرت الحاجة إلى نظام مالي جديد. فالتطور والنمو في القدرة على الإنتاج نما نموا هائلا لم يسبق له مثيل في الحياة البشرية بسبب الآلة, وأصبح لا يحده حد إلا وجود المستهلك القادر على دفع تكلفة الإنتاج. وبدأ عامة الناس يتمتعون بالسلع والخدمات التي لم تكن متاحة إلا للصفوة الثرية من قبل، مُلاك الذهب والماشية والحقول. وقومي، ياويح قومي، ما يدرون أن الالتزام بأدبيات اقتصاديات القرن التاسع عشر التي يرددونها صباح مساء تعني حكر السلع والخدمات على هذه القلة القليلة من الأغنياء دون عامة الناس, كما كانت هي الحال التي ألفوها في صباهم ويريدون جبر الناس عليها.
وحصل الكساد العظيم في أمريكا الذي امتد لأربع سنوات بسبب الأزمة المالية التي انقدح زنادها بالانهيار العظيم لـ ''وول ستريت''، في يوم سُمي عندهم بالثلاثاء الأسود من عام 1929م. وأدرك مفكرو أمريكا وعقلاؤها أن هذا النمو الإنتاجي المتسارع سيؤدي حتما إلى أزمات مالية مماثلة سيكون مردها وسببها أبدا ودوما نقص التمويلات والسيولة. فارتفاع الأسعار هو نتيجة حتمية للنمو، لأن زيادة الإنتاج لا تحدث إلا بزيادة الطلب, وزيادة الطلب ترفع الأسعار, والمنتج يستجيب بزيادة الإنتاج طالما أن الأسعار حافظت على ارتفاعها مغطية لتكلفة الإنتاج، فإذا انخفضت الأسعار تراجع الإنتاج وارتفعت البطالة وبدأت كرة الثلج التي قد تؤدي إلى الكساد إن لم تتدارك بتوفير السيولة اللازمة.
في بدايات العصر الحديث (أي عصر الآلة) لم تستطع اكتشافات الذهب وتزايد كمياته المحدودة أن تتماشى مع التزايد الرهيب في كميات الإنتاج بسبب ثورة الآلة. وعدم التوازن بين زيادة الذهب وزيادة الإنتاج يؤدي حتما إلى انخفاض الأسعار. فالذهب هو الثمن وقوته الشرائية أصبحت تتعاظم (بسبب محدوديته) أمام السلع (بسبب تعاظم زيادة إنتاجها) مما أدى إلى انخفاض الأسعار باستمرار, وهو ما يسمى انكماش الأسعار وهو عكس التضخم. والذي يسهل هذا المفهوم ويقربه إلى الأذهان ويحكمه هو معادلة بسيطة ولكنها عظيمة في مفهومها واتساع تطبيقاتها وهي: الثمن (ذهب أو فضة) = السعرX الإنتاج. فالسعر اسم أو رمز لا حقيقة له، بينما الثمن والإنتاج حقيقيان. فإذا زادت كمية الثمن على كمية الإنتاج زادت الأسعار وحصل التضخم. وإذا نقصت كمية الثمن عن كمية الإنتاج نقصت الأسعار وحصل الانكماش.
انكماش الأسعار في الأحوال الطبيعية غير محمود، وذلك لأنه يمنع الاستثمار مما يؤدي إلى تناقص الإنتاج، أي تقهقر وتراجع النمو. وذلك لأن المستثمر لن يضع أمواله في مصنع أو بناء أو سلعة أو أرض يرى تناقص قيمتها مع الأيام، فخير له أن يبقيها كما هي أو يقرضها لمن هو في حاجة لها، (وهذا هو أساس قبح الإقراض بالربا الذي اشتهر به اليهود في أدبيات القرن السادس عشر وحكايات تاجر البندقية).وتقهقر النمو بسبب انخفاض الأسعار سيستمر إلى أن ترجع الأسعار إلى الثبات أو إلى التضخم المعتدل المتوقع فيعود الاستثمار مرة أخرى. وتوقف النمو يعني تقليل عدد أفراد المجتمع القادرين على شراء السلع، أي زيادة الفقر.
هذه الحقيقة المستجدة والحديثة أدركها العقلاء واختلف في تفسيرها عباقرة الاقتصاد الحديث, فكانت المدارس الاقتصادية المتنوعة والتي اختلفت في تفسير الظاهرة من إرجاع السبب إلى آلية السوق مطلقا ''اليد الخفية'' (المدرسة الكلاسيكية القديمة والحديثة) أو إلى الثمن مطلقا (المدرسة المالية) أو إلى إنتاج السلع مطلقا (المدرسة الكنزية القديمة والحديثة). ومهما اختلفت التفسيرات الحديثة لهذه النظريات فهي تتفق بأن تناقص قيمة الفلوس المعاصرة أصبح أصلا في خلقتها وليس بطارئ عليها, وهو ضرورة حتمية لضمان استمرارية النمو. والمقال اليوم يضيء جانبا جديدا يضاف إلى الجوانب الأخرى المتعددة التي تؤكد أن الواقع اليوم هو العكس بالضبط لما يطرحه مقلدو مفكري الاقتصاد الإسلامي المعاصر.
فالرسم البياني المرفق يوضح نمو الاقتصاد الأمريكي نموا حقيقيا خلال 45 عاما من عام 1960م - 2005م من 2.2 تريليون دولار إلى 11.1 تريليون دولار وذلك بأسعار عام 2000م. أي أن كمية الإنتاج الحقيقي لأمريكا قد تضاعفت تقريبا خمس مرات خلال أربعين عاما, بينما لم يتضاعف عدد السكان ولا مرة واحدة خلال الفترة نفسها (من 180 مليون أمريكي إلى 300 مليون). هذه الزيادة في الإنتاج صاحبها زيادة في الأسعار يمثلها زيادة مؤشر الأسعار من 21 إلى 112. وكل نقطة في هذا الرسم تمثل كمية الإنتاج في سنة. وكمية الإنتاج يحددها التقاء العرض مع الطلب. وكتوضيح لتقاطع العرض مع الطلب في هذه النقاط الـ 40 فقد رسم لهما خطان يمثلهما في عامي 1960م و2005م . الأول هو الخط المسمى بـ AD والذي يمثل كمية الطلب الكلي من المجتمع الأمريكي، والثاني هو الخط المسمى بـ SAS الذي يمثل كمية إنتاج المجتمع الأمريكي في المدى القصير. والحقائق والفوائد التي يمكن استخلاصها من هذا الرسم تحتاج إلى مجلدات لتحتوي على تفسيرات المدارس الاقتصادية لجميع المظاهر الذي يحويها هذا الرسم، ولكن شاهدنا هنا هو أن الطفرة الصناعية هي سبب رئيسي من أسباب ارتفاع الأسعار. فعندما يزداد الطلب في المجتمع لسبب أو لآخر (كزيادة إنفاق حكومي أو توقعات إيجابية بسبب اختراع جديد كالاتصالات أو الإنترنت) تزداد الأسعار بزيادة الطلب فتحفز المنتج على الإنتاج بسبب زيادة الأسعار مما ينقل خط الطلب AD إلى اليمين. فإذا استمر الطلب على حاله من الزيادة اتجه المنتج لجعل هذا الإنتاج دائما مما سينقل خط العرض إلى اليسار (مسببا زيادة إضافية إلى الأسعار) وهو ما يسمى بالنمو ومن ثم يصبح المقدرة الحقيقية للمجتمع على الإنتاج ويمثله هنا الخط LAS. فزيادة الأسعار هي الحافز وراء زيادة الإنتاج، ولو كان الثمن حقيقة ومحدودا كالذهب لما كانت زيادة الأسعار حافزا للإنتاج بل لأصبحت وسيلة لحكر الأموال والسلع والخدمات على فئة قليلة من الناس. وزيادة الطلب التي ترفع الأسعار وتحفز الإنتاج لا بد لها من سيولة، والسيولة تأتي من تسهيل التمويلات وتخفيض أسعار تكلفتها أي طبع النقود من قبل البنك المركزي ومن ثم توليدها من قبل البنوك التجارية. وهنا يأتي دور البنك المركزي. فمتى رأى أن الطلب أقل من إمكانية إنتاج المجتمع رخص سعر الفائدة وضخ السيولة في المجتمع الاقتصادي ليمنع تقهقر النمو. ومتى رأى أن الطلب أكبر من المقدرة الإمكانية الإنتاجية للمجتمع رفع سعر الفائدة وسحب السيولة لكي يمنع ارتفاع الأسعار من غير زيادة حقيقية في الإنتاج. فالفائدة والتمويلات أصبحت تؤدي عكس الدور التي كانت تؤديه أيام الذهب والفضة. فزيادة الفائدة تنقص الأسعار وخفض الفائدة يرفع الأسعار، وزيادة الأسعار تزيد النمو ونقصانها يؤدي إلى الكساد وذلك بالضبط عكس أدبيات اقتصاديات القرن التاسع عشر وما قبله عندما كان الثمن حقيقة محدودة كالذهب.
ومن فرضيات الأحلام الوردية لمنظري الاقتصاد الإسلامي المعاصر هو أن الدولة يجب أن تكون مسؤولة فلا تضخ أموالا أكثر من طاقتها الإنتاجية. وهذا ومع أنه فلسفة حالمة لا واقع لها فإنها ولو تحققت فإنها لا تغني شيئا عن ارتفاع الأسعار وفقدان الفلوس المعاصرة قيمتها الشرائية مما ينفي عنها صفة الثمن الشرعية ويثبت أن هذا الدين عظيم ولا يتطاول عليه أحد برأيه (سواء أكان بسبب سياسة شرعية أو دنيوية) إلا وأظهر تناقضه وعجزه.
إن المتأمل لأطروحات مقلدي مفكري الاقتصاد الإسلامي المعاصر يجده يعيش اليوم أدبيات القرن التاسع عشر وما قبله ويبني على ذلك معطيات وحيثيات خاطئة ومن ثم يُلزم البلاد والعباد بنتائجها ويبشر بأحلام وردية لا حقيقة لها، هي جوهرها عند تأملها إحياء لأطروحات الاشتراكية الإسلامية التي خلت وبادت، فهل يدرك ذلك عقلاؤنا؟