ديناميكية التعليم ومردوده التنموي!!

أولت خطط التنمية الاقتصادية في مُجملها تطوير وتأهيل العنصر البشري عناية فائقة لإيمانها بأهميته وقدرته على المساهمة والإبداع في إيجاد حلول علمية تطبيقية للمُعضلات التي تعترض التنمية. فالسياسات التدخلية من أجل التنمية لتتحقق بمجرد استيراد التكنولوجيا إن كانت آلات، معدات، نقلا للمبتكرات العلمية، أو حتى بتراكم رأس المال المادي فقط، بل من خلال عملية ذات مرتكزات وأبعاد عميقة وشاملة لا تعتمد على تنمية المهارات الفنية والقدرات الإدارية فحسب بل إحداث نقلات في الطرق والوسائل العلمية والتكنولوجية بحيث يواكبها تغيير في الاتجاهات الاجتماعية والفكرية السائدة. وضمن منطق النظرة الواقعية، يشهد عصرنا الحالي العلاقة الحميمية بين الإنسان والتنمية بكافة أبعادها، فالعنصر البشري يُعتبر المُرتكز الأساس لتشكُلها وفى إخفاقها أو نجاحها، وعلى هذا فإن مساهمة هذا العُنصر تُشكل أثراً إيجابياً من خلال الحضور الجاد، بينما غيابه يُعتبر سلباً سواء كان متعمداً أو لعدم جديتة. ولكي تكون الصورة أكثر إشراقاً، فقد أرجع الكثير من الاقتصاديين الاهتمام برأس المال البشري إلى أسباب عدة، فالزيادة في الناتج الوطني للدول المتقدمة يرجع تفسير جزء منه ليس للزيادة في رأس المال المادي وساعات العمل إنما إلى ارتفاع الكفاءة الإنتاجية والمتراكمة نتيجة لزيادة الاهتمام بالتعليم والتدريب، ما دفع البلدان النامية للاهتمام بالتعليم لزيادة قدراتها على استغلال العناصر الإنتاجية المتوافرة لديها. ولكي تُعطي هذه العملية التعليمية ثمارها لابد من وجود تربية وتعليم على مستوى الطموحات تُمكن العنصر البشري من القدرة على معرفة ما حوله من ظواهر ومبادئ ما يُساعده على مواجهة المواقف المختلفة، وتنمية لقدراته كونها عملية مستمرة تهدف إلى تزويد الإنسان بالإمكانات والمهارات التي تساعده على اتخاذ القرارات السليمة. وحتى تتم مراجعة التجربة الوطنية في هذا المجال ومدى مساهمتها في خلق الأجواء المناسبة بتهيئة إمكانات بشرية قادرة على المساهمة في التنمية لابد من النظر إلى مُرتكزات العملية التعليمية الثلاثة المعلم، المدرسة، والمنهج التعليمي. لنرجع إلى الأرقام لتكون الفيصل بيننا، فقد ارتفع عدد المعلمين والمعلمات من 23118 عام 1390هـجري إلى 421628 معلما ومعلمة عام 1425 - 1426هـجري وهذا يعكس حرص الحكومة على توفير الكوادر الوطنية المؤهلة لتقوم بالعملية التعليمية بعد أن كان يقوم بها العنصر الأجنبي والعربي.
أما بالنسبة لأعداد الطلاب الملتحقين بالمؤسسات التعليمية على مختلف مراحلها فقد ارتفع من 547 ألفا عام 1390هـجري إلى ما يربو على خمسة ملايين طالب وطالبة عام 1425هجري، أي بمعدل نمو سنوي مقداره 6.6 في المائة، أما معدل النمو السنوي للمؤسسات التعليمية فقد بلغ نموه 8.6 في المائة للفترة نفسها، حيث وصلت الأرقام القياسية للخريجين من الثانوية العامة إلى 373.1 في المائة. لقد أصبح شعار الدولة رعاها الله يتمثل في توفير فُرص التعليم لكل مواطن سواء في المدينة أو القرية وهذا يدركه كل ذي لب، وحملت على عاتقها زيادة الإنفاق على التعليم حتى في أحلك الظروف المالية، حيث ارتفع الإنفاق على التعليم من 21 مليار ريال عام 1406هجري إلى ما يُقارب 71 مليار ريال 1426هجري. الشاهد في هذا المقام، أن تخطيط التعليم المتوائم مع متطلبات التنمية هو الهدف الذي نسعى لتحقيقه، ففي تقرير للبنك الدولي عام 2002، حول التعليم الخاص في المملكة والتحديات التي تواجه النظام التعليمي برُمته وبالذات معايير الكفاءة، أشار التقرير إلى معيار الرسوب والإعادة أو ترك الدراسة حيث قُدرت التكاليف المالية المرتبطة بالطلبة الذين فشلوا أو تركوا الدراسة في النظام التعليمي بما يفوق 12 مليار ريال في ذلك الحين. وشدد التقرير على أهمية سوق العمل وتحقيق متطلباتها من خلال نظام تعليمي مرن يهتم بتوفير المهارات المطلوبة لسوق العمل لدى الخريجين ولأن انخراط جزء كبير من الطلبة والطالبات في الدراسات الإنسانية المتفرعة قد يحرم سوق العمل من حاجته. إن الاعتماد على طرق التدريس التقليدية تفتقر إلى المهارات الإبداعية المطلوبة لتحقيق نجاحات على مستوى الاقتصاد الوطني الحديث والتي من ضمنها مهارات حل المشاكل، روح العمل الجماعي، الإبداع، التفكير وقيمة العمل المُنتج. أما مقياس البطالة فهو تحد ثانٍ لكفاءة التعليم وقد لا يكون المناسب والدقيق لوضعنا الحالي لأن إحصائيات البطالة ونوعياتها لم يتم إدراجها بشفافية كاملة. وإزاء هذا الوضع، فإن الأفكار السابقة تؤطر للعمل على تطوير نموذج تعليمي متناغم مع متطلبات التنمية وقادر على التفاعل معها، من ذلك جودة وكفاءة التعليم بإلزاميته إلى الانتهاء من المرحلة الثانوية كما هو معمول به في أغلب الدول المتقدمة بحيث يتم الحد من التسرب من النظام التعليمي، وبالنظر إلى الأرقام المُتاحة كان خريجو التعليم الابتدائي عام 1401هجري 96031 طالبا وطالبة، وبعد ست سنوات غدا خريجو الثانوية العامة 45445 طالبا وطالبة، ما يعني وجود تسرب من التعليم وهذا يُشكل هدرا بشريا وماليا وعدم قابلية سوق العمل لأيد عاملة دون مستوى النضج والتأهيل. من الثابت أن السبل الكفيلة بتحقيق تعليم يخدم التنمية يتطلب إعادة النظر في مناهج التعليم بالكُلية وإعادة صياغتها من جديد لتتلاءم مع حاجات سوق العمل الآنية والمستقبلية، وإعادة رسم خريطة طريق للمباني، الكوادر التعليمية، والتجهيزات المدرسية لتكون بيئة جذب ولتتناسب مع إمكانات المملكة وحجم الطموح المستقبلي في بناء دولة صناعية قادرة على البقاء في عصر ما بعد النفط وقادرة على مقارعة الكبار.

أكاديمي واقتصادي سعودي

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي