المنهج لا المنطق هو أصل الخلاف في الهلال
اختلف ابني آدم، فاختلفت الذرية. واختلاف الأفهام بين بني آدم فطرة فطر الله الناس عليها. ومن الاختلاف ما هو محمود وبه تقوم مصالح البشر، وتتحقق به الخلافة في الأرض، ومنه ما هو مذموم يصل إلى حد الإفساد في الأرض. وشاهد ذلك كله قوله تعالى ''ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين''. والذي يظهر لي والله أعلم، أن أول الآية هو تقرير لربوبية الله وتأكيد لمطلق مشيئته. ومن ثم في قوله ''ولا يزالون مختلفين'' إثبات لإرادته الكونية (جل شأنه) في حتمية وقوع الخلاف بين بني آدم بشتى أنواعه، ويدخل فيه الخلاف المحمود الذي به تقوم أمور الدنيا ومصالح الناس. وبهذا الاختلاف تتحقق حقيقة الخلافة في الأرض وشاهد بعض ذلك قوله تعالى في موضع آخر ''وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات'' فغالب اختلاف درجات الناس في الدين والدنيا هو من اختلاف أفهامهم (ولا علاقة للذكاء بالفهم، فالدنيا قد يتحصلها طماع غبي ويضيعها زكي ذكي لاختلاف أفهامهم، وكذلك الدين فيرفع الله عجائز نيسابور درجات ويخفض دهاة المعتزلة دركات وذلك أيضا من اختلاف أفهامهم). وأما الاستثناء في قوله تعالى ''إلا من رحم ربك'' فهو تخصيص لبعض عموم الاختلاف وهو (والله أعلم) الاختلاف في أصول الدين، وهو الاختلاف المذموم وشاهده خاتمة الآية. ومثال ذلك اختلاف الصديق والفاروق في أمور كثيرة التي تقوم بأشباهها مصالح البشر وكلاهما - رضي الله عنهما - ممن رحم الله وذلك لعدم اختلافهم في أصول الدين. وأما قوله ''ولذلك خلقهم'' ففيه تأكيد لأول الآية في جانب من جوانب الربوية وهو عموم الخلق وفيه أيضا تبيين وتأكيد لجانب من حكمة الله في خلق بني آدم خاصة وهو كونهم أصحاب عقول وأفهام، فالخلاف لازم من لوازم العقول.
ومفهوم الآية يدل على أن الخيار، سواء أكان علميا اعتقاديا أو عمليا تطبيقيا، هو نتيجة حتمية للاختلاف، وسواء أكان الخيار جماعيا كخيار أمة كما تدل عليه أول الآية، أو خيارا فرديا كما تدل عليه آخرها. يشهد لهذا المفهوم وخاتمة الآية، ففيها إثبات المحاسبة والمؤاخذة على الخيار الناتج على الاختلاف رغم أن اختلاف الأفهام أمر طبعي فطري قد فطر الله الناس عليه وجعله حكمة من حكم خلقه لبني آدم.
والخلاف قد يكون علميا منطقيا نافعا منتجا في الدين أو الدنيا، وقد يكون تعصبا محضا مخالفا للمنطق والتسلسل العقلي الصحيح غرضه تحقيق مصلحة عامة أو خاصة للمخالف، وشاهد الخلاف التعصبي المحض لتحقيق المصلحة العامة قولهم ''وما أنا إلا من غزية إن غوت غويت وإن ترشد غزية أرشد''.
وسواء أدرك المخالف أو لم يدرك، فإن تحقيق النفوذ والغلبة هو أصل معظم الخلاف (بنوعيه النافع والضار) وسواء أكان ذلك النفوذ للدين أو المذهب أو الجنس أو الجماعة أو الثقافة أو الصناعة أو لذات النفس الفردية للمخالف أو لحسد المخالف.
والحديث اليوم ليس عن الخلاف الذي منشأه طلب تحقيق النفوذ، وإنما الحديث اليوم عن نوع من أنواع الخلاف النابع عن عجز في فهم وإدراك المنطق الفكري للمخالف. هذا العجز في الفهم قد يكون نابعا من جهل مركب أو من عناد محض لا غاية له إلا محض المخالفة، شاهده قوله تعالى''قالوا يا شعيب ما نفقه كثيرا مما تقول''. وقد يكون الخلاف نابعا من قوة تأثير المنهج الفكري (سواء أكان دينيا أو دنيويا) في أتباعه إلى أن يشل قدرتهم على الفهم والإدراك للتسلسل الفكري العقلي للمخالف وشاهد إمكانية حدوث الجدار المانع للفهم والإدراك عند بني آدم بالجملة قوله تعالى ''وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقرا''.
وقدرة المنهج الفكري على أن يشل مقدرة أتباعه على إدراك وفهم منطق المخالف هي تجربة عملية مررت بها دامت معي لأكثر من 15 عاما، كان محورها إثبات رؤية الهلال.
المنهج السلفي الصافي (الذي لم تشوبه السياسات الشرعية والتقليد الأعمى) منهج فكري بسيط الطرح واضح المنطق يفهمه الأمي والمتعلم، لا تعقيد فيه ولا سفسطة شاهده قول رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ''نحن أمة أمية''. وضوح المنهج السلفي وبساطته واستقامته تزرع في قلوب أتباعه إيمانا عميقا في الآراء الناتجة عنه والتي قد تؤدي أحيانا إلى شلل فكر صاحبها عن فهم منطق المخالف بغض النظر عن الاتفاق معه أو عدمه.
الجمعية الإسلامية لمسلمي شمال أمريكا (الإسنا) تتبع في دخول الشهر وخروجه حساب الفلك في المنع الصريح وتتبع الرؤية في الإثبات. فرؤية الهلال عندهم لا تخلو من حالين. الأولى كون الرؤيا مستحيلة كغروب الهلال ليلة الشك قبل غروب الشمس (كما سيحدث غدا الخميس بمشيئة الله). ففي هذه الحالة لا يُطلب من الناس ترائي الهلال، وترد شهادة الشهود وإن كانوا ثقات لشذوذها مع من هم أوثق منهم وهم علماء الفلك في العصر الحديث، ويثبت الشهر في اليوم التالي تلقائيا بتمام الشهر. ومثل هذا معمول به عند علماء الحديث فهو كرد الحديث لشذوذ الثقة لمخالفته من هو أوثق منه لعلمه بالمسألة أو لقربه من الحدث كخطأ ابن عباس حين خالف ميمونة في نكاح المُحرم.
والحالة الثانية هي صعوبة رؤية الهلال وليس استحالته كغروب الهلال بعد الشمس مباشرة أو انخفاضه ونحو ذلك، فهنا تطلب الإسنا من المساجد التابعة لها ترائي الهلال فإذا ثبتت رؤية الهلال من الشهود العدول أعلنت الإسنا دخول شهر رمضان وإلا أتمت شعبان 30 يوما. وعلى بساطة هذا المنطق وموافقته الصريحة لظاهر الشرع، إلا أن تسع رمضانات قضيتها تباعا في أمريكا لم تفلح حتى في تصحيح رؤيتي الخاطئة عن الإسنا في هذه النقطة، فضلا على أن أقدر على فهم منطق المسألة من وجهة نظر الإسنا.
ومرد ذلك أنني كنت في أمريكا عام1993م ولم تلتفت (الإسنا) في رمضان ذلك العام إلى شهادة 11 مسلما شهدوا كلهم بأنهم رأوا الهلال في ولاية نيو مكسيكو (على ما أذكر)، فاستقر في نفسي حينها أن الجمعية تتبع حساب الفلك مجردا بغض النظر عن الرؤية وأن ما تأمر به الناس من ترائي الهلال هو من باب ذر الرماد في العيون، ولم أكن أعلم حينذاك التفصيل السابق في الفرق بين استحالة رؤية الهلال وبين صعوبة رؤيته. فشكلت هذه الحادثة مع قوة تأثير المنهج الفكري السلفي عندي جدارا مانعا للفهم والتصور، فلم أستطع فهم المسألة (رغم نقاشها أعواما مديدة ومرات عديدة) حتى جاء رمضان عام 2005م عندما أعلنت الإسنا أن هلال رمضان يصعب رؤيته تلك الليلة، وكانت ليلة الجمعة، وعليه فإن يوم السبت هو غرة شهر رمضان في الغالب، فنمت قرير العين بعد صلاة العشاء استعجب ترائي أهل المسجد للهلال (وكنا نتبع الإسنا) فأصبحت يوم الجمعة مفطرا والمسلمون صيام فقد رُئي الهلال وأثبتت الإسنا دخول الشهر، فهدمت هول الصدمة جدار الممانعة ففهمت المسألة لحظة سماع خبر دخول رمضان بعد أن استعصت الساعات الطوال من الشرح والتفصيل ، خلال عقد من الزمن، في إيضاح منطق المسألة.
لسنا هنا بصدد تلخيص لبعض التخريجات الفقهية (التي لا تكفيها مجلدات) أو الآراء العقلية التي تناولت اعتماد الرؤية المجردة للهلال أو الحساب الفلكي المجرد أو الخلط بينهما، ولكني أكاد أجزم أن عدم اعتماد شهادة الفلكيين في المنع الصريح لرؤية الهلال لا الإثبات (وهي شهادة لا تقل درجة عن التواتر) هو نتيجة لتأثير المنهج الفكري الذي بنى جدارا من الممانعة يمنع من تصور المسألة عند المخالف ويعوقه عن فهم المنطق الشرعي والعقلي الصحيح المصاحب لها.
وخاتمة القول، فمهما كان نوع الخلاف في اعتماد رؤية الهلال فهو خلاف ينتهي بخيار تُحمل عليه الأمة ولا مجال فيه إلا لخيار واحد ولا يُتعبد الله بخلافه، والذي بيده تقرير أمر على هذا الحجم من المسؤولية سيختار ما يدين الله به يوم القيامة ولن تأخذه لومة لائم وهو يعلم أنه مؤاخذ ومحاسب على خياره، فلا يُشنع عليه ولا يُخطأ ولا يلام في ذلك فهذا ما أفهمه الله من المسألة، ولم يجعل الله علينا في الدين من حرج فقد تعبدنا الله بالظن لا باليقين، فما ظننا أنه حق بعد الاجتهاد فمنزلته في الحكم منزلة اليقين، فالحمد الله رب العالمين.