ما مهمة صندوق النقد الدولي؟
كان صندوق النقد الدولي واحداً من الجهات القليلة المستفيدة من الأزمة الاقتصادية العالمية. فمنذ عامين فقط كانت محاولات تقليصه جارية على قدم وساق، وبدأ خبراء جادون في التساؤل عما إذا كان من الواجب إغلاق الصندوق. ومنذ ذلك الحين تجدد الطلب على قروض صندوق النقد الدولي. ووافق أعضاء الصندوق على مضاعفة موارده إلى ثلاثة أمثالها. كما أصبح الصندوق مفوضاً بجمع الأرصدة المالية الإضافية من خلال بيع سنداته الخاصة. وتحول الصندوق إلى خلية تعج بالنشاط.
بيد أن الأزمة لن تستمر إلى الأبد. وفي الوقت نفسه فإن منتقدي صندوق النقد الدولي لم ينصرفوا عنه؛ بل قرروا التزام الصمت مؤقتاً. ولن يشجعهم الصندوق على العودة إلى انتقاده إلا إذا فشل في تحديد الدور الذي يتعين عليه أن يضطلع به. لذا، يتعين عليه أن يقوم بتحديد دوره الآن وما زال العالم يعيره أذناً متعاطفة صاغية.
إن الدور الأول الذي يتعين على صندوق النقد الدولي أن يضطلع به يتلخص في مساعدة البلدان التي تواجه أزمات في ميزان مدفوعاتها نتيجة لانتهاج سياسات محلية غير سليمة. وحكومات هذه البلدان ليس أمامها خيار غير الاقتراض من الصندوق. ولكي يحافظ الصندوق على موارده ـ أي أن يضمن السداد للأعضاء المساهمين فيه ـ فلابد أن يفرض تعديلات سياسية صعبة على المقترضين.
والمشكلة هنا أن صندوق النقد الدولي استسلم لحجج منتقديه حين وافق على "تبسيط" شروطه. ولكن حين يتبين للصندوق أن نقاط الضعف البنيوية هي السبب وراء المشكلات التي تعانيها الجهات المقترضة فلابد أن يطالبها بإجراء تعديلات بنيوية في مقابل منحها المساعدات. أما إذا بدا كأنه يقدم تنازلات في هذا الشأن سعياً إلى الفوز بالأصدقاء والتأثير في الناس فإن الصندوق يكون بهذا قد تسبب في خلق وضع مربك لا داعي له.
الدور الثاني الذي يتعين على صندوق النقد الدولي أن يضطلع به هو أن يعمل كمركز للاحتياطي العالمي. لقد عمدت بلدان عديدة إلى تكديس احتياطيات نقدية ضخمة سعياً إلى تأمين نفسها ضد الصدمات. وهذه استراتيجية باهظة التكاليف بالنسبة للبلدان الفقيرة، والتي كان بوسعها أن تستخدم مواردها على نحو أفضل في الاستثمار والاستهلاك. ولكن من المؤسف أن الأدلة الأخيرة التي أكدت تقلب أسواق المال العالمية لم تسفر إلا عن تشجيع الميل إلى تكديس المزيد من الاحتياطيات.
إنه لمن الأفضل والأكثر كفاءة أن يتم تجميع احتياطيات البلدان التي تحتاج إليها في أوقات مختلفة. ولقد تحرك صندوق النقد الدولي في هذا الاتجاه من خلال إنشاء مرفق السيولة قصيرة الأمد الذي يسمح للبلدان التي تتبني سياسات قوية محكمة بسحب خمسة أمثال حصتها المقررة من الصندوق ودون شروط. ولكن مرفق السيولة قصيرة الأمد ما زال يفرض شروطاً مرهقة لتقديم الطلبات، وحتى الآن لم يتمكن من تحمل هذه الشروط سوى المكسيك وكولومبيا وبولندا.
ربما كان ذلك منطقياً حين كانت موارد صندوق النقد الدولي محدودة، حيث سمحت عملية طلب القروض للصندوق بالحد من مسؤوليته القانونية. ولكن بعد مضاعفة موارد الصندوق إلى ثلاثة أمثالها فإن هذا المنطق لم يعد قابلاً للتطبيق. يتعين على صندوق النقد الدولي أن يعلن بشكل قاطع عن البلدان المؤهلة لاستحقاق خدمات مرفق السيولة قصيرة الأمد، الأمر الذي يجعل هذه البلدان تلقائياً أعضاءً في هذا المرفق.
الدور الثالث الذي يتعين على صندوق النقد الدولي أن يضطلع به يتخلص في الإشراف على ترشيد الاقتصاد الكلي. لقد أثبتت الأحداث الأخيرة ضرورة وجود جهة تتوقع المخاطر التي قد يتعرض لها الاستقرار المالي العالمي وتحذر منها. وتقترح مجموعة العشرين أن مجلس الاستقرار المالي، المؤلف من هيئات إشرافية وطنية، لابد أن يتولى زمام المبادرة في القيام بهذه المهمة، على أن يتولى الصندوق دوراً مسانداً في هذا السياق، رغم ممارساته المعهودة في التحذير المبكر ورغم تقديراته المشتركة للقطاع المالي مع البنك الدولي.
غير أنه من غير الواضح على الإطلاق لماذا يتعين على مجلس الاستقرار المالي أن يتولى قيادة هذه العملية. إن صندوق النقد الدولي بما يتمتع به من عضوية عالمية أعرض تمثيلاً من مجلس الاستقرار المالي، هذا فضلاً عن القاعدة الضخمة من الخبراء العاملين لديه.
إن الجهات الإشرافية الوطنية قد تكون غير راغبة في تسليم هذه المسؤولية لمنظمة متعددة الأطراف. ولكن هذا يدل على قصر النظر. ذلك أن الأسواق المالية والمؤسسات ذات الارتباطات العالمية تحتاج إلى جهة تساعدها على ترشيد الاقتصاد الكلي. أو ربما كان الأمر أن صناع القرار السياسي على المستوى الوطني لا يثقون بصندوق النقد الدولي، وذلك لأنه لم ينتبه في الأساس إلى قدوم الأزمة المالية العالمية. وإن كان الأمر كذلك فإن الصندوق يحتاج إلى استعادة هذه الثقة.
وهذا يقودنا إلى الدور الرابع الذي يتعين على صندوق النقد الدولي أن يضطلع به، والذي يتلخص على وجه التحديد في استخدام منبره الممتاز للتحذير من المخاطر الناشئة عن سياسات البلدان الضخمة. إن البلدان الصغيرة الحجم تخضع لانضباط السوق. ولكن حين تحتاج البلدان الضخمة التي تُـستَخدَم عملاتها دولياً إلى المزيد من الموارد فما عليها إلا أن تطبع المزيد من النقود. وهذه البلدان لا تفتقر إلى الشعور بضرورة الالتزام بضوابط السوق فحسب، بل إنها أقل خضوعاً لضوابط صندوق النقد الدولي أيضاً، وذلك لأنها ليست ملزمة بالاقتراض من الصندوق.
ولكن كما تُـذكِّرنا كارثة الرهن العقاري الثانوي، فإن السياسات التي تنتهجها البلدان الكبرى من الممكن أن تعرض النظام المالي العالمي للخطر. والحقيقة أن الصندوق، الذي لم يكن راغباً في عض اليد التي تطعمه، كان محجماً عن إصدار تحذيرات قوية في مثل هذه الحالات. ولكن إذا كان لصندوق النقد الدولي أن يستمر في الوجود في المستقبل فلابد أن تصدر إدارته تحذيرات أقوى بشأن العجز القادم الهائل في الحساب الجاري للولايات المتحدة، أو فقاعة الإسكان المقبلة، أو أي مشكلة ناجمة عن السياسات التي تنتهجها أي دولة كبرى. فالآن لم يعد من الممكن التسامح مع التصريحات الغامضة المبهمة.
وأخيراً، يتعين على صندوق النقد الدولي أن يتولى تنسيق عملية إصلاح النظام الدولي. وإذا تسنى في الأمد البعيد استخدام وحدة نقدية دولية (حقوق السحب الخاصة على سبيل المثال) كبديل للعملات الوطنية المستخدمة الآن كوحدات نقدية احتياطية دولية، فسوف يكون لزاماً على صندوق النقد الدولي أن يتولى تطوير هذه الوحدة. وإذا تطلب الأمر اتخاذ التدابير اللازمة لوقف اتساع الفجوة أثناء عملية التحول، فلابد أن يتولى الصندوق زمام القيادة في هذا السياق أيضاً.
ولكن حتى الآن كانت الأفكار المبتكرة لإصلاح النظام الدولي قادمة من الولايات المتحدة، وبنك الشعب الصيني. ولم يكن صندوق النقد الدولي ملحوظاً إلا لصمته.
إن الأزمة لم تصبح بعد في طي النسيان، ولكن نافذة الفرصة تتضاءل مع الوقت. في أوائل تشرين الأول (أكتوبر) ستستضيف مدينة اسطنبول الاجتماع المقبل لمجلس محافظي صندوق النقد الدولي. وإذا لم يقدم الصندوق رؤية واضحة للمستقبل في ذلك الاجتماع فسوف يعني هذا أن الفرصة قد ضاعت إلى الأبد.