حتى يكون الحوار الاقتصادي مُجدياً!

الحوارات الاقتصادية المرئية، المسموعة، والمقروءة عادة ما تتسم بالإجابات العامة، والبسيطة ما يجعلها تُسهم في تبسيط بعض التعقيدات، وللأسف لدرجة التسطيح، ما يُعطي المُتلقي أياً كان الانطباع بأن هذه الإجابات شاملة في مضمونها ودقيقة في محتواها ولا يوجد حلول أخرى، وقد تكون إشارة خاطئة لوضع يستدعي حلولا بصورة مُغايرة. وحتى لا نُفرط في النقد، نُدرك جميعاً أن هناك أكثر من مدرسة فكرية اقتصادية وكل مدرسة لها رؤاها المُتميزة بخصوص دور وأهمية بعض المتغيرات الاقتصادية كالنقود والضرائب مثلاً، ولها وجهة نظر كذلك مغايرة بخصوص علاج بعض المشكلات الاقتصادية وبالطرق التي تراها مناسبة من وجهة نظرها. ففي ظل التوجه التنموي، سعت حكومتنا الرشيدة أن يكون للحوار أياً كان مكان لائق في مجتمع صبغته ثقافة التفكير الأُحادي الجانب والحوار الإقصائي للآخر، ومن منطلق الحرص على الاستفادة من الخبرات والكوادر وعدم إهدار وقتها في إشاعة أجواء عدم الشفافية تجاه كثير من القضايا الوطنية الاقتصادية المهمة وحرف مسار كثير من الطُروحات بسبب عدم التمكن من الإلمام بخلفيات الموضوع المتشعبة ما يُوحي بأن حل المشكلة الفلانية أو الظاهرة العلانية إنما يتمثل في هذه الوصفة فقط التي قد لا تُغطي كثيرا من الجوانب المتعلقة ببقية المتغيرات ذات الصلة. مثل هذه الوصفات التسويقية القاصرة في التحليل والمضمون ستؤدي وبشكل حتمي إلى علاجات مشوهة وغير كافية ولا تصلح للتعميم. يختلف الاقتصاديون بتنبؤاتهم الدقيقة تجاه سياسة أو سياسات معينة في التأثير في النشاطات الاقتصادية المُختلفة كون الاقتصاد له ميكانيكية معقدة، وبالرغم من اتفاق الاقتصاديين على الميكانيكية العامة التي تحكم الاقتصاد لكنهم قد لا يتفقون على التفاصيل القياسية التي تصف وضعا من الأوضاع، ولكونهم يدركون محدودية نتائج النماذج الرياضية بسبب كثير من العوامل السياسية والاجتماعية التي لها تأثير واضح، ولا يمكن التحقق من تأثيرها المباشر ولهذا فهم يفترضون وبكل تجرد قيود بقاء الأشياء الأخرى على حالها other things being equal. وهذه العبارة تعني أن الاقتصادي سيفترض أن كل الأشياء ماعدا الأشياء المحددة التي أدخلها في دراسته هي التي لم تتغير، فعلى سبيل المثال عند دراسة الاقتصادي لتأثير الرسوم على سلعة (س) فمن الممكن أن يفترض بقاء العوامل الأخرى على حالها، مثل الدخل أو النشاطات الاقتصادية المرتبطة بالاقتصاد الوطني. دعونا نتأمل في اختلاف بعض المدارس الاقتصادية وليس جُلها تجاه السياسات العامة، فالسياسة المالية من وجهة نظر المدرسة الكلاسيكية، زيادة الإنفاق الحكومي ستكون لها النتائج التالية: ارتفاع في معدل الفائدة، ما يدفع إلى زيادة المعروض من النقود وبحكم أن المعروض النقدي ثابت، ففي هذه الحالة سيُسمح للأسعار بالارتفاع لحفظ توازن معادلة الطلب على النقود. التأثير سيكون فقط في الأسعار والفائدة دون الناتج الوطني بحكم أننا نعمل تحت العمالة الكاملة لذلك التأثير السلبي الذي يقع على الاستثمار والاستهلاك crowdout ، وعليه فالسياسة النقدية الواجب اتباعها للخروج من هذه الدوامة وبصرامة مقاومة الإفراط في العرض النقدي ومصادره وهي العجز في الموازنة العامة وفرط الإنفاق الحكومي، خاصة في المجالات الخدمية والاجتماعية. أما بالنسبة للمدرسة الكينزية، فسياستهم النقدية تتمثل في وفرة النقد والاحتفاظ بسعر الفائدة عند أقل مستوى ولهذا على الدولة من وجهة نظرهم معالجة مشكلة تفضيل السيولة الذي يجعل سعر الفائدة دائما عند أعلى مستوياتها. أما السياسة المالية فلابد للدولة من تعويض استثمار الأفراد من خلال الاستثمار العام مثل مشاريع الخدمات العامة والبنية الأساسية، وحدد كينز وقت هذا التدخل عند وجود الأزمات الاقتصادية مثل البطالة والركود الاقتصادي وعدم اللجوء للقرض العام من أجل تمويل مشاريع الاستثمار العام، لأنه سيؤثر في الادخار الخاص، ما يؤدي إلى ارتفاع سعر الفائدة، وبالتالي على الاستثمار. إلا أن الشيء الأهم، وهو إثارة قضية ضعف السيولة في القطاع المصرفي، فالبعض لم يتردد في وصف العلاج مباشرة بأن يتم إيداع جزء من الاحتياطيات الحكومية في المصارف المحلية دعماً لها وزيادة في قدرتها على التمويل. إن الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل لم يتم التطرق مُطلقا إلى ما قد يحصل من آثار مستقبلية على الاقتصاد الوطني. لا شك أن ضخ شيء من السيولة في شرايين اقتصادنا المحلي سيرفع من حجم السيولة وقدرة البنوك على التمويل، إلا أنه حل من جملة من الحلول وعلى رأسها الاندماجات الكلية أو الجزئية، فما حجم حاجة اقتصادنا؟ وإلى متى الضخ؟ وما هي انعكاسات ذلك على الاقتصاد الوطني؟. بعيدا عن التفصيل ولنُمعن النظر في اختلاف المدارس الفكرية، فالمدرسة الكلاسيكية ترى أن زيادة المعروض النقدي سيكون له تأثير في الأسعار فقط، بينما لن يكون له أثر في المتغيرات الاقتصادية الحقيقية، وهذه تشبه إلى حد كبير تأثير « نقود الهيلوكبتر « ففي هذه الحالة البنوك ستتوسع في الإقراض ومن ثم زيادة في الطلب الكلي ومن بعد الزيادة في الأسعار. أما موقف الكينزيين ففرضية العمالة الكاملة وحيادية النقود غير وارده مطلقاً، ولهذا فإن « نقود الهيلوكبتر» ستزيد الإنتاج لكن التأثير في الفائدة غير واضح، ولذا على الدولة أن تبقيها عند أدنى مستوى لديمومة الاستثمار الخاص. إذاً، أي موضوع مهم يتم طرحه أو مناقشته يجب أن يأخذ في الحسبان جميع الأبعاد الاقتصادية المحلية والدولية، أما صرف الوصفات المجانية أو صرف وصفات الغير فهذا فيه تجن على الواقع وتتويه لراسم السياسة الاقتصادية، بل عوض عن ذلك التركيز على المحددات الأساسية المبنية على معلومات علمية سليمة مُستقاة من مصادر مُؤهلة.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي