بين منظمة التجارة العالمية وقانون الذرة

يبدو أن الحديث عن إعادة هيكلة وتشكيل المؤسسات الدولية في ظل الأزمة المالية الاقتصادية العالمية الحالية أصبح مادة دسمة للحديث والنقاش، والسبب ببساطة أن تأسيس تلك المؤسسات كان لمصالح فئات معينة في حقبة تاريخية معينة كانت تلك الدول تملك فيها القوة وتملك ظروف القوة، بينما اليوم المعادلة تختلف باختلاف مقاييس قوة الدول وعددها ومصالحها وتحالفاتها وباختلاف الظروف الاقتصادية والسياسية.
ولعل منظمة التجارة العالمية تعتبر أول المؤسسات الدولية التي بدأت تدفع ضريبة الأزمة الاقتصادية العالمية، فلم نعد نسمع كثيرا عن تشريعات جديدة وقلت بشكل كبير أحكامها في النزاعات بين الدول، ولعل جهودها منذ بداية الأزمة تتركز على المحافظة على ما تم إنجازه خلال السنوات العشر الأخيرة، ولكن التحدي الكبير الذي تواجهه المنظمة هو أن أول الدول في خرق قوانين منظمة التجارة العالمية هي الدول التي أسست المنظمة في عام 1995 الاتفاقية العامة على التعريفة الجمركية والتجارة لما قبل ذلك. ولعل الإجراءات الحمائية التي بدأت بعض الدول المتقدمة والناشئة في تطبيقها، تمثل التحدي الأكبر في سلسلة تحديات منظمة التجارة العالمية، وشخصيا فإني لا أرى غرابة في أن يكون من السهل اختراق التزامات منظمة التجارة العالمية، فهي الحلقة الأضعف من حلقات المؤسسات الدولية، وكذلك فهي المنظمة الأصغر عمراً.
وبالنظر إلى التاريخ، فإن الإجراءات الحمائية ليست وليدة اللحظة، بل ردة فعل طبيعية للمحافظة على اقتصاديات ومكتسبات الدول، ولعل "قانون الذرة" البريطاني يعتبر من أول الشواهد على الإجراءات الحمائية في تاريخ تحرير التجارة. فقانون الذرة البريطاني هو قانون استحدثه البرلمان البريطاني في عام 1815 بعد الحرب النابليونية الفرنسية، لما يسمى بالمحافظة على زارعة الذرة في بريطانيا، بحيث يتم إيقاف استيراد الذرة من الخارج إذا هبطت سعر الذرة عن 80 شلنا للربع. فقد كانت أسعار الذرة في أعلى مستوياتها خلال فترة الحرب بسبب إيقاف الاستيراد بسبب ظروف الحرب. وبغض النظر عن الأهداف الحقيقية لذلك القانون، إلا أنه يؤكد أن قوانين الحماية تعتبر من أول الأسلحة التي تستخدمها الدول للمحافظة على مكتسباتها أو حماية منتجاتها المحلية.
لذلك، فإن رؤية القوانين الحمائية التي بدأت في الانتشار بعد الأزمة العالمية تعتبر من وجهة نظري ردة فعل طبيعية لدول لا تعتبر التزامات منظمة التجارة العالمية ذات بعد كبير إذا ما قورنت باهتمام تلك الدول في حماية منتجاتها الوطنية. فقامت أمريكا بفرض رسوم مكافحة الإغراق والإعانات المالية على الأنابيب المستوردة من الصين. وبعد ذلك بحماية أجبانها من الجينة الفرنسية بواسطة الرسوم الجمركية وقامت روسيا بحماية قطاع السيارات لديها وفرضت وزارة المالية في الهند رسوم حماية ضد واردات البولي بروبيلين من شركات سعودية وعمانية وسنغافورية. هذه أمثلة بسيطة لعشرات القرارات الحمائية التي اتخذتها كثير من الدول وعلى رأسها دول مجموعة الأربع والثماني والعشرين.
إن الأزمة المالية العالمية واختراقات قوانين منظمة التجارة العالمية من الدول التي أسست منظمة التجارة العالمية تظهر بوضوح أن تركيبة منظمة التجارة العالمية بشكلها الحالي لا يخدم مصلحة المجتمع الدولي بشكل عام، ولم يعد يخدم أهداف دول التأسيس بعد الحرب العالمية الثانية، ولذلك, فإن التغيير الهيكلي والتنظيمي والقوانين يجب أن تأخذ بعين الاعتبار مصالح جميع دول العالم، فالظروف تغيرت والدول تغيرت وموازين القوة تغيرت وقواعد اللعبة تغيرت.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي