ضُعف الادخار . .أزمة تنموية مُستقبلية!
«أنفق ما بالجيب يأتيك ما بالغيب» عبارة كثيراً ما نُرددها، ونتجاوب معها بالإنفاق من غير تروٍ لدرجة العشوائية مُناقضين بذلك ظاهر الآية الكريمة «والذين إذا أنفقوا لم يُسرفوا ولم يقتُروا وكان بين ذلك قواماً»، وغير مُبالين بأهمية الادخار وكأننا لم نسمع بـالحكمة القائلة «احفظ قرشك الأبيض ليومك الأسود». مفهوم الادخار هو الفرق بين الدخل والإنفاق خلال فترة زمنية معينة، وهذا قد يتفاوت من أمة إلى أخرى طبقا لمفهومها للادخار وأهميته الحيوية في تحقيق التنمية المستدامة وحسب ظروفها الاقتصادية بما فيها الدخل، حيث إن العلاقة دائما موجبة بين الدخل والادخار، تضاف إلى ذلك ثقافة ووعي المجتمع بأهمية الادخار ودوره الحيوي في التنمية الاقتصادية. ومن هذه المنطلقات، فالسياسة التنموية التي يمكن للبلدان النامية اعتمادها هي الحرص وعلى المستويات الاجتماعية والسياسية كافة على دعم الادخار من أجل تتويج الجهود المبذولة لتحقيق التنمية بأشكالها كافة. عملية تحديد الأهداف العامة الموجهة لتحقيق الادخار تتمثل في حرص جميع البلدان على رفع مستوى الادخار، فعلى سبيل المثال معدل الادخار للأسر الأمريكية ارتفع إلى نحو 9.6 في المائة لهذا العام بعد حسم الضرائب, وهو الأعلى منذ 1992، وطبقاً لمارتن فلدستاين فهو يُعادل ادخار 57 مليار دولار سنوياً، في حين يعده البعض أفضل مقارنة بـ 1 في المائة للأعوام 2005 ــ 2007. وبالمُقارنة نجد أن معدل الادخار في اليابان راوح بين 20 و40 في المائة من دخول الأسر اليابانية. ونظراً للأهمية الارتكازية للاستهلاك في تحديد معدل الادخار، فهو ينقسم إلى قسمين, الاستهلاك الخاص, وهو الذي يُشكل الغالب، ويشمل إنفاق أفراد المجتمع ككل والجهات غير الربحية كالجمعيات الخيرية والأندية بأشكالها كافة، والاستهلاك الحكومي وتتولى الإنفاق فيه السلطات الحكومية بكل تفريعاتها، كالإنفاق على التعليم والصحة ومشاريع البُنى التحتية.
تجدر الإشارة هنا إلى أن التمييز بين الإنفاقين يرجع إلى اعتبارات الحاجة والضرورة في الخاص, بينما الاعتبارات السياسية الاجتماعية والدفاعية تحدد النوع الحكومي من الاستهلاك. لقد جرت العادة التمييز ما بين الادخار وهو ما يقتطعه الفرد شهرياً مثلاً لغير الاستهلاك ويُسمى مخزونا، أما المُدخرات فهي عبارة عن تدفقات تراكمت خلال فترات معينة. ومن باب الشيء بالشيء يُذكر، فمحددات الاستهلاك ومن ثم الادخار فهي الدخل، الثروة، التوقعات المستقبلية للدخل، فعندما تكون التوقعات متشائمة كالخوف من الركود الاقتصادي وكنتيجة له الفصل الوظيفي أو تقليل ساعات العمل فسينعكس على الدخل وبالتالي تخفيض الاستهلاك فالادخار. أما المُتغيرات السكانية فمع افتراض ثبات الأشياء الأخرى على حالها، فإن زيادة السكان أو تغير التركيبة السكانية كالفئة العمرية, ستؤدي إلى زيادة الاستهلاك ونقص الادخار. في الواقع الدول النامية يمكن تصنيفها وحسب قدراتها الادخارية إلى ثلاث مجموعات حسب دخولها، هناك مجموعة دخولها منخفضة جدا, ولا شك أن معدلات الادخار فيها ضعيفة أو لا توجد مثل أوغندا، المجموعة الثانية وهي أحسن حالا من ناحية الدخل والادخار وتضم بعض الدول الإفريقية والآسيوية، أما المجموعة الثالثة فتشمل الدول الأكثر دخلا مثل الدول النفطية الخليجية وبعض الدول الآسيوية والإفريقية لكن مازالت ثقافتها الادخارية لم تصل إلى مستويات الدول المتقدمة، في حين يقترب البعض من دولها من معدلات الادخار في المجموعة الثانية.
من الثابت أن أهمية الادخار تكمن في توفير الاستثمارات اللازمة للتنمية وهي المرحلة الخامسة والحاسمة للانطلاق أو الدفعة القوية طبقاً للاقتصادي روستو. الادخار المحلي سيقلل من احتياجاتنا إلى الأموال الأجنبية سواء كانت لتمويل مشاريع استثمارية أم لبناء مشاريع البُنى الأساسية الضرورية للتنمية المستدامة، مع التنويه بمخاطر الاستثمار الأجنبي على أية حال ورغبته في الربح السريع والمُغادرة إلى وطنه. حتى نكون واقعيين وعمليين لا بد لنا من تبني خطوات عملية تساعدنا على زيادة معدلات الادخار الوطنية من خلال زيادة الادخار الأسري بالدرجة الأولى وليس الحكومي، ويتم هذا من خلال تغيير أفكار المواطنين وقناعاتهم بأن الطفرة النفطية سرمدية. الاعتقاد بأن الثروة دائمة دفع أبناء الوطن إلى الإنفاق الاستهلاكي بشكل مستمر وغير مبرمج على السلع الاستهلاكية وغير المنتجة، ما جعل النظرة إلى الأزمة المالية الحالية وما سبقتها من انخفاضات في أسعار النفط بأنها هزات مؤقتة وستعود الأمور إلى سابق عهدها، ولعل عبارة «الدولة قوية» توحي بديمومة الطفرة النفطية, وهذا ينافي واقعنا اليوم. من المؤكد لا أحد يُنكر أهمية علاج العجز في ميزان المدفوعات, حيث إن اقتراض الدولة من المواطنين سيمتص كثيرا من مدخرات الأسر المُوجهة للتنمية ما يعني الحاجة إلى الاستثمارات الأجنبية ولا شك أننا نُدرك مخاطرها. وبنظرة سريعة نجد أن معدل الإنفاق الاستهلاكي للمملكة نما بين 1969 و2005 في المتوسط بمقدار 7 في المائة، بينما متوسط معدل النمو للناتج المحلي للفترة نفسها بلغ 5.4 في المائة، وبالمقارنة نجد أن متوسط إجمالي رأس المال الثابت للفترة نفسها بلغ 4.6 في المائة. ومن المعروف ضمن هذا السياق، وبحسبة بسيطة أن الميل الحدي للاستهلاك عال جدا ما بين عامي 2004 و2005 على سبيل المثال، وهذا يُحتم علينا إعادة النظر في توجهاتنا الادخارية المستقبلية من خلال سياسات اقتصادية ترشيدية وضريبية تعيد التوازن إلى الادخار والاستهلاك، إضافة إلى برامج توعوية مُمنهجة تؤثر في الجيلين الحالي والقادم من خلال التركيز على مناهج تعليمية تُنمي مدارك الناشئة بأهمية الادخار ودوره التنموي.