تقليدٌ أوجب الزكاة في الزهيد التافه وفرط في العظيم الهائل

الدعوة النجدية دعوة سلفية أحيت ما اندثر من الدين فجددت ما تقادم منه فغير ملامحه، وصححت ما انحرف في أصوله وتطبيقاته لتعيده بكرا نقيا كما جاء به رسول الله - صلى الله عليه وسلم. وكما كان في عهد النبوة والخلافة الراشدة، فكذا كانت هذه الدعوة، كيان ديني وسياسي وعسكري واجتماعي متكامل. ومضت قرون تعاقبت فيها أجيال من أبناء هذه الدعوة المباركة، كل جيل يُورث الجيل بعده ثوابت العقيدة وأصول الدين (من علوم القرآن والحديث وأصول الفقه). فكانوا خير خلف لخير سلف، حيث أنزلوا الحوادث المستجدة منازلها، واستنبطوا، على ما يوافقها من الأصول، التطبيقات المناسبة لها.
ومما استجد في هذا العصر، أن سرعة تغير الحوادث وتجددها في هذا الزمان سبقت قابلية ومقدرة تقبل بعض أبناء الدعوة للمستحدثات من جهة، كما فاقتهم تنوعاتها صعوبة وتعقيدا من جهة أخرى. فما كان من بعض خلف الدعوة المعاصرين إلا أن استحضروا المنهج التطبيقي لسلف الدعوة سواء في الجانب الدعوي أو في جانب الفتوى تاركين الأصول ومُجهلين المخالف، وهم باستحضارهم للفتاوى التطبيقية لسلف الدعوة (دون تأصيلها والنظر في السياسات الشرعية التي صاحبتها) قد وقعوا مما فروا منه (كمنعهم للزكاة في مثالنا هذا وجعلهم الدين حيلا وخدعا ساذجة في باب اقتصاديات المسلمين).
وهذا المقال الثاني يُكمل الوقفة مع الفتوى التطبيقية للشيخ محمد بن إبراهيم في ربوية الفلوس المعاصرة التي وردت كمثال تطبيقي في التعقيب على مقالي "في توحيد الفتوى". فقد تبين أن تأصيل المسألة في ربوية الفلوس المعاصرة عند مفتي الديار كان من باب الاحتياط وأن تجهيل المخالف ليس على إطلاقه، وإلا سيدخل في ذلك التجهيل علماء ربانيون كبار، منهم ابن سعدي الذي نص صراحة على كونها من العروض، وقد يدخل في ذلك ابن حميد وابن بسام وابن عثيمين - رحمهم الله - لإلحاقهم الفلوس المعاصرة بالفلوس القديمة وهي عند البعض من العروض. فلعل التجهيل كان بمناسبة تناسب زمانها التي قيلت فيه ومقتصرة عليه فلا تُخرج من زمنها ومناسبتها. وهذا ملخص ما احتواه أولا وثانيا من الوقفة الأولى في المقال الأول.
وأما ثالثا فقد جاء في التعقيب استعابة التعنت بالتزام المذهب، ثم عاد كاتبه الكريم فتعنت بالتزام المذهب: حيث قال عن من يجعل الفلوس المعاصرة كالعروض" فلا يجري الربا فيها، ولا تجب فيها الزكاة إلا إذا أعدت للتجارة" على حد قوله. وهذا القول يُؤتى به لترهيب العوام كالقول الذي يُخوف به العوام فيقال لهم (جهلا أو سياسة) بأن المال الذي لا يجري فيه الربا لا تجري فيه الزكاة، وهو قول باطل في أصله كبطلان الذي قبله في تطبيقه المعاصر. فالإبل والبقر والغنم أموال لا تجري فيها الربا وتجري فيها الزكاة. وأما القول بأن العروض لا زكاة فيها إلا إذا أعدت للتجارة فهو قول في بعض المذاهب وهو قاصر في التقسيم والتحديد مما أدى إلى خطأ فهمه وسوء تطبيقه في العصر الحالي.
فالأموال (وكل ما يُمكن تملكه فهو مال) لا تخرج عن حالين اثنتين. فإما أنها من أجل الغير (كالتجارة بها والمقايضة بها، لا تبرعا وجهادا وصدقة) أو أنها للقنية والاستخدام الشخصي. فما كان من أجل الغير ففيه الزكاة كائنا ما كان هذا المال كالدجاج والأراضي والحمام ولو كان إبلا أو بقرا غير سائمة حتى ولو لم تبلغ نصاب الإبل والبقر ولكنها بلغت نصاب الذهب والفضة ففيها ربع العشر. وأما إن كانت للقنية والاستخدام الشخصي فهذه لا زكاة فيها إلا ما ورد النص فيه كالأنعام والزرع ففيها الزكاة ولو كانت للاستخدام الشخصي. والفلوس المعاصرة لا يتصور كونها للقنية أو للاستخدام الشخصي وهي أرقام في حواسب الكمبيوتر ووظيفتها المقايضة بها (أي من أجل الغير) ففيها الزكاة، وهذا لا يُشكل على أحد بشرط تصور حقيقتها تصورا صحيحا. فلو أن شخصا عنده حمام وأرانب يحتفظ بها من أجل أن يقايض به الغير في غير تجارة في ذاته فيستبدله بأراض وسيارات ونكاح فهل تجري الزكاة في الحمام الذي يملكه أم لا؟ نعم تجري به الزكاة بلا شك لأنه من أجل الغير، وأما إذا قلدنا تقليدا أعمى للمذهب فليس في هذا الحمام زكاة لأنه ليس للتجارة به! أو نتبع منطقا معكوسا فنزعم جريان الربا في الحمام والأرانب من أن أجل أن نلزمه بالزكاة! كما فعلنا بالفلوس المعاصرة.
ولو خرجنا المسألة على القابلية للنماء كشرط لوجوب الزكاة فكل مال لم يذكر فيه نص وهو قابل للنماء ففيه الزكاة سواء أنماه صاحبه أم لا، كالدجاج والحمام والخيل والأنعام الغير سائمة والطوابع البريدية الأثرية واللوحات الفنية والسجاد، إلا إذا اُستخدم للاستفادة منه في ذاته شخصيا (قُنية يستمتع بها ويؤكل منها لا لتجارة ولا مقايضة) فكل ذلك لا زكاة فيه ولو كان قابلا للنماء مادام أنه للاستخدام الشخصي. ولكن هذا لا يتصور أبدا في أرقام في حواسب الكمبيوتر (الفلوس المعاصرة). وتصور إمكانية أن تكون الفلوس المعاصرة من القُنية هو من التقليد الأعمى غير المقنن. فالفلوس المعاصرة تتناقص قيمتها أصلا في خلقتها مما يمنع احتكارها (أي اقتنائها) ولا يدعي اقتناءها دون إنمائها أو استخدامها أحد اليوم إلا ويُحجر عليه، وهو شاذ لا يعمم حكم من أجله. فالفلوس المعاصرة مال قابل للنماء ولا تقتنى للاستخدام ولا للمتعة فهي عرض من عروض التجارة (على التقسيم المذهبي) وإن ادعى صاحبها اقتناءها مخادعا لله مستغلا ما يردده المقلدون في المذاهب. فالفلوس المعاصرة غير قابلة للاقتناء حيث إنها لا منفعة مرجوة منها بذاتها بل بما تستبدل به ففيها الزكاة.
وعلى كل حال فكل ما سبق لا حاجة له إلا من باب مُحاجة المتعصبين للمذهب، وإلا فكيف يسمى الشيء عرضا من عروض التجارة وهو ليس للتجارة، فماذا هو إذن! وتقسيم الأموال إلى عروض للتجارة أو غيره هو مجرد لتعليم المبتدئين في الفقه (كتقسيم الماء إلى طاهر وطهور ونجس) لا لكي يعتبر نصا شرعيا لا يُخرج عن حرفيته. ولو فُتح المجال لأتباع المذاهب والأقوال فلن تزكى حتى عروض التجارة على مذهب أهل الحديث ومالك وغيرهم. ولكن الذي تطيب به النفس أن كل الأموال التي نُص على الزكاة فيها إنما ذكرت على أنها أمثلة، جامعها قابلية النماء وكونها من أجل الغير، وما حصل عندنا من احتكار للأراضي وتهرب من الزكاة في أموال التجار إلا بسبب مثل هذه الأقوال في تتبع المذاهب الذين يريدون تخويف الناس لسياسات شرعية لم تعد قائمة، فحرموا وضيقوا وحجروا ولجأوا إلى الحيل واتخذوا الدين هزوا وأساطير يحكونها عن فضائل حيلهم الساذجة التي استباحوا بها أموال المسلمين وسخروا من عقولهم. وكل ذلك من أجل تقليد أعمى لفتوى تطبيقية تحسبت من أن يستغل فاجر سقطات المذاهب فلا يزكي دراهم معدودة. فأُلزمت الزكاة في الزهيد التافه من الأموال وفرطت في العظيم الهائل وضيعوا على مساكين المسلمين مستحقات معظم الأموال بتقليدهم وقصر إدراكهم عما اُستحدث في اقتصاديات الناس.
والاحتجاج بالزكاة على ربوية الفلوس المعاصرة هو احتجاج معكوس المنطق باطل النتيجة. فلا يصح أن يقال بربوية الشيء من أجل أن نُجري فيه الزكاة. إذن فلنجري الربا في الأراضي من أجل أن نُلزم الناس زكاتها! بل الصحيح أن الأراضي مال لا يجري فيه الربا وهو قابل للنماء فتجري فيه الزكاة حتى تُتخذ الأرض مسكنا، ولا عبرة لمن يقول إنها ليست للتجارة فهو إما محتكر متربص فهو يتاجر بها أو معتوه يُحجر عليه ويتصرف بأملاكه. وتكرير عبارة أن العروض إذا لم تكن للتجارة فلا زكاة فيها هي (على خطأ فهم التقسيم) سبب تهرب كثير من الزكاة ومنها الأراضي.
والشاهد في هذه النقطة أن إيراد كلام مفتي الديار هنا والاستشهاد به على عدم جريان الزكاة في الفلوس إذا اعتبرت من العروض هو من التعصب للمذهب وفيه تعنت، وهو الآن سبب ضياع كثير من الزكاة. وفي الالتزام بهذا القول أيضا إخراج الفتوى عن زمانها ومناسبتها، إذ كانت غالب أموال الناس آنذاك إما فلوسا أو عروض تجارة أو أنعاما أو زراعة أو قنية للاستخدام والاستمتاع وأما الآن فلم يعد الناس (اللهم إلا ضعافهم) يحتفظون بالفلوس من غير وضعها في استثمار مناسب لها. هذا من جهة، ومن جهة أخرى فقد كان الناس عندنا على مذهب فقهي غالب قد يصعب الخروج عنه سياسة. ولو تتبعنا الآن الأقوال المختلفة في المذاهب لخرجت غالب الأموال من فرض الزكاة، فلا يفتى اليوم بالفتاوى التطبيقية للعلماء السابقين رحمهم الله، فهو ظلم لهم بل يُستشهد بتأصيلهم للمسائل.
وما زال لي وقفات عديدة مع التعقيب الذي جاء على مقالي "في توحيد الفتوى". ففي هذا التعقيب نموذج تطبيقي ملائم للوقوف عليه لتبيين ظلم أبناء الدعوة النجدية لها، وفرصة لاستنصارهم لأحيائها من جديد ليس في ديارها فقط بل في أصقاع العالم أجمع وذلك على المنهج التجديدي التصحيحي الذي وضعه إمام الدعوة الشيخ محمد بن عبد الوهاب - رحمه الله - تعالى.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي