بين الإصلاح و «الله لا يغير علينا»!
كثيراً ما يُطرح سؤال مهم عن سر تقدم شعوب وتأخر أخرى رغم تساوي الإمكانيات بين المتقدمين والمتأخرين واتباعهم جميعاً نفس تطبيقات الإصلاح التعليمي والسياسي , فدول أمريكا الجنوبية مثلاً ظلت تراوح مكانها لسنوات طويلة وبعضها تخلف عن العصر رغم أن معظم تلك الدول اتبعت النصائح الأمريكية للإصلاح منذ زمن بعيد لكن دون جدوى, وهذا ما فتح الباب للكثير من الباحثين على مستوى العالم لدراسة هذه الظاهرة ومحاولة الوصول إلى الأسباب الحقيقة التي تقف خلفها.
ولو نظرنا إلى معظم دول العالم العربي اليوم لوجدنا أنها دول تستفيد بشكل كامل من تقنيات العصر وتطبيقات الإصلاح, وتتسابق لإصلاح أنظمتها التعليمية وتطوير كوادرها البشرية لكنها في النهاية مازالت تحبو باتجاه التقدم الحقيقي, وتحتاج لسنوات طويلة جداً للحاق بركب دول العالم الأول, وهذا ما يشير إليه الكاتب»شوقي جلال» في مؤلفه المهم جداً برأيي «المجتمع المدني وثقافة الإصلاح» حيث يتطرق فيه لعشرات الدراسات التي ناقشت ظاهرة تقدم دول وتخلف أخرى رغم تبنيها لنفس التطبيقات الإصلاحية, وينقل عن المفكر «ماريو فارجاس» تأكيده أن الإصلاحات الاقتصادية والتشريعية مع ضرورتها لتحديث البلاد لايمكن تحقيقها مالم يسبقها أو يصحبها إصلاح حقيقي لأعرافنا وعاداتنا وأفكارنا وكل المنظومة المعقدة من العادات والمعارف و التصورات والصورالتي نفهمها حين نقول «ثقافة».
أما «لورانس هاريزون» فيدرس في كتابه «التخلف حالة ذهنية» التطوير الاقتصادي والاجتماعي من زاوية ثقافية, ويضرب مثالاً لذلك أن دولة غانا كانت أكثر تقدماً من كوريا الجنوبية في ستينيات القرن الماضي بينما تحتل كوريا الجنوبية اليوم مكانة مرموقة بين الدول المتقدمة وتقبع غانا في قائمة الدول المتأخرة.. كما أن مصر كانت أكثر تقدماً من اليابان في أواخر القرن التاسع عشر, ولكن اليابان اليوم أكثر تقدماً من مصر في جميع عصورها, ويفسر هاريزون هذا بأن هناك قيم ثقافية تدعم التطوير, وأخرى سلبية تعيق التغيير, ومن القيم الثقافية الإيجابية: العمل الجاد, والتفرد, والنظام, والالتزام, والعقلانية (السلطة للعقل).
وكنت قد تطرقت في مقال سابق إلى معضلة «فوبيا الجديد» التي تكاد أن تكون نمطاً سلوكياً خاصاً بالمجتمعات العربية والمجتمع السعودي في مقدمتها وهي عائق حقيقي للتغيير والتطور, مهما اتبعنا من تطبيقات إصلاحية في جميع المجالات, فلن نصل إلى التقدم الحقيقي نظراً لأننا بحاجة قبل أن نصلح أنظمتنا التعليمية والاقتصادية إلى أن نصلح عاداتنا وأنماطنا السلوكية, ونحرر العقل الجمعي من عشرات القيود التي قد تعبر عن نفسها بشكل صارخ في عبارة لرجل مسن يشرب قهوته عصراً في بيت الشعر الملحق بمنزله ويردد: «الله لا يغيير علينا»!
إننا نتخذ من الماضي «كتيب إرشادات» للمستقبل و هذا يجعلنا ندور في حلقة ماضوية مفرغة, فيما تتقدم الشعوب من حولنا ثم نصحو فجأة لنتساءل عن سبب تقدمها وتأخرنا ونبدأ في محاولة اللحاق بها لكننا ما نلبث أن نعود لنفس الحلقة الماضوية. إن من يحلم بالتقدم يجب أن يعيش بعقله وروحه في المستقبل يرسمه كما يحلم به, أما أن يحلم بالتقدم بينما يعيش بكيانه في الماضى فهذا وضع لايمكن أن يحركه خطوة واحدة للأمام.