انخفاض المعروض النقدي والمبادرة الحكيمة!!

تفضل خادم الحرمين الشريفين - يحفظه الله - بالاطلاع على التقرير السنوي الـ 45 لمؤسسة النقد العربي السعودي المتضمن الإشارة إلى إقراض الصناديق الحكومية مبلغ 40 مليار ريال العام الجاري لسد الفراغ الذي شهده انخفاض نشاط البنوك التجارية الإقراضي نتيجة للأزمة المالية العالمية. هذا التطور النوعي في الإعلان وبكل شفافية يعكس رغبة حكومتنا الرشيدة في توظيف الأموال الوطنية في مكانها المناسب، وجدية «ساما» في التعامل الشفّاف مع المتغيرات الدولية والتي قد تطول تداعياتها ما يتطلب العمل السريع للتصدي لتبعاتها. في البداية النقود، هي الشيء المقبول بعامة لدى البائعين مقابل التنازل عن السلع والخدمات، ولهذا فالنقود الموجودة في محافظنا تقوم بهذا الغرض بمجرد إبرازها للبائع والذي هو على أتم الاستعداد لقبولها. في إطار النظام الاقتصادي العالمي ومكوناته، يُعتبر اكتشاف النقود خطوة أساسية لتقدم الحضارة الإنسانية بعامة، ففي عصرنا الحديث تعتمد مختلف الأنظمة الإقتصادية على النقود وبذلك احتلت الواجهة في المعاملات التجارية والدراسات الإقتصادية والمالية. إن الحقيقة الماثلة للعيان، أن النقود بصورتها الحالية قد مرت بمراحل تطور كنتيجة لتزايد الحاجات الاجتماعية والاقتصادية بسبب اعتماد الأفراد بعضهم على بعض في الحصول على احتياجاتهم الحياتية والمعيشية الأمر الذي دفعهم للتعاون من أجل الحصول عليها. ففي البداية كان نظام المقايضة حيث يتم تبادل سلع بسلع أخرى، ومن ثم النقود السلعية، فمروراً بالنقود المعدنية، فالنقود الورقية، وانتهاءً بالنقود الائتمانية أو المصرفية، نقود الودائع، وتعتبر من الوسائل المهمة للدفع وتشكل نسبة كبيرة من إجمالي النقود المتداولة في الأنظمة الاقتصادية المُتقدمة. فمع ارتفاع درجة النشاط الاقتصادي نتيجة لزيادة الدخل، وارتفاع الوعي المصرفي أصبح هذا الشكل من العادات المصرفية مقبولاً لإتمام العمليات التجارية بين الأفراد بحيث يستطيع المُودع الوفاء بالتزاماته عن طريق سحب جزء أو كل المبلغ الذي أودعه. وفي خطوةٍ لاحقةٍ وجد الأفراد أنه من الأسهل لهم أن يأمروا البنوك بتحويل مبالغ من حساباتهم إلى حسابات أخرى ويتم ذلك من خلال تخفيض حساب الطرف الأول لصالح الطرف الثاني ودون خروج للنقود الورقية من المصارف. في العادة ومن خلال تعامل المصارف مع الأفراد بدأت بتقييم سلوكهم المالي من خلال إيداعاتهم وسحوباتهم، فالبعض يسحب جزءا خلال فترة معينة والبعض الآخر يودع، وبذا أصبحت لدى المصارف وفرة مالية استفادت منها بالاستثمار من خلال الإقراض مقابل فوائد. ويتم ذلك بإصدار تعهدات بدفع نقود ورقية عند الطلب تزيد عما يوجد لدى المصرف من نقود فعلية، ومع ذلك فإن هذه التعهدات لا تتجاوز قدرة المصارف على تلبية سحوبات العملاء اليومية، وهذا يُطلق عليه خلق النقود. تعتبر هذه الوظيفة من أهم وظائف المصارف في عصرنا الحاضر، وعلى هذا فإن هذه النقود المصرفية تختلف عن النقود الأخرى بحيث لا يوجد لها كيان مادي، لاتحظى بالقبول العام، وليس لها قوة إبراء غير محدودة. من الممكن التعرف على المعروض النقدي بالنظر إلى ن1،ن2، و ن3، وطبقاً لإحصائيات «ساما» فإن نمو المعروض النقدي ن3 انخفض من 6.19 في المائة 2007م إلى 15.3 في المائة شهر تموز (يوليو) 2009م، بينما انخفض إجمالي مطلوبات القطاع المصرفي من 19.7 في المائة إلى 0.6 في المائة لنفس الفترة. هذه التغيرات المُتوقعة في المعروض النقدي من جراء الأزمة الاقتصادية العالمية يحصل في العادة نتيجة لظروف قاسية مثل شح السيولة، الإفراط في الإقراض، خسائر لحقت نتيجة استثمارات غير ناجحة، المؤسسات المالية الكبيرة التي تودع في البنوك تواجه أزمات مالية خانقة، أو نتيجة لارتفاع الطلب على القروض وضعف السيولة لدى القطاع المصرفي. ورغم التحفظ الشديد لسياستنا النقدية إلا أن ما يحصل هو نتيجة طبيعية لتفاعل اقتصاد مفتوح كالاقتصاد السعودي أُحادي الدخل مع بقية الأنظمة الاقتصادية العالمية المختلفة، لكن الأهم التعامل مع الموقف بحزم خشية دخول اقتصادنا الوطني مرحلة سُبات عميق يصعُب معها إفاقته. في الواقع، الاعتماد فقط على التدخل المالي لدعم القطاع المصرفي على أنه الخيار الوحيد والأمثل من دون إحداث تغييرات هيكلية للمؤسسات المالية وسياسات تحفظية مرسومة يتطلب منا وقفات كثيرة، فماذا لو استمرت تبعات الأزمة المالية على الاقتصاد الوطني لفترة أطول مما هو متوقع هل سنستمر في الضخ؟ وماذا عن تأثير هذا الضخ في الاقتصاد الوطني وبقية القطاعات الاقتصادية الأخرى؟ وكيف سيكون عليه الوضع لو تآكلت الاحتياطيات المتراكمة وما زالت تبعات الأزمة قائمة؟. إن المسألة لاتقف عند حدود تدخل الدولة المالي لدعم القطاع المصرفي من خلال آلية مناسبة فقط، بل تتعداه إلى معالجة الكثير من أوجه القصور في هيكل وفعاليات المؤسسات المالية والمصرفية. لاشك أن المسؤولية كبيرة على من يقوم بتجميع المدخرات وتوظيفها في قنوات أكثر جذبا مع القدرة الفائقة على تقييم المخاطر واستشراف مواضع العائد المُجزي، وهذه تتطلب منهجية، خبرة وعلم، وهذه بوجاهة تتوفر بأصحاب التخصصات الإدارية، الاقتصادية، والمالية، وعليه فالوضع يستوجب اختيار الكفاءات الوطنية لتتولى الإشراف على الفعاليات المالية والاستثمارية. وضمن هذا المنطق، يمكن النظر إلى عملية الاستحواذات والاندماجات الكُلية أو الجزئية على أنها حلول ناجعة، مع تأكيد «ساما» أن الدعم المالي ليس مجانياً وإلى ما لانهاية، إنما هو لفترة محدودة، وأن تضع المصارف خريطة طريق توضح فيها خططها الاستثمارية والطرق المُثلى لاستعادة السيولة التي فقدتها.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي