أيكون الجهل ديانة يُتقرب بها إلى الله؟! (1 من 2)
كم أتمنى ويتمنى كل مؤمن صادق أن يخرج شخص ذو علم وحجة وأدب فيحاجج في مسألة ربوية الفلوس المعاصرة بالكتاب والسنة وبطريقة علمية ومنطقية شرعية صحيحة على مذهب السلف دون خلط في الأصول ولبس في النقولات وتجهيل لكل مخالف بغير حق. والواقع يشهد بأن تضافر الأدلة الشرعية والنقلية والعقلية على عدم ربوية الفلوس المعاصرة (في وقتنا الآن) وصعوبة نقض هذه الأدلة أو ردها إلا برأي مجرد، هو من يمنع صاحب العلم التقي الورع من المحاجة في هذه المسألة. فلا مستند لربوية الفلوس المعاصرة من النقل عن الشارع ولا عن عالم معتبر إلا وينقضه قول أقوى منه دلالة وسندا سواء من الشرع إذا كان دليلا نقليا أو من كلام العالم نفسه إذا كان الاستدلال بقول عالم. وكذا فلا مستند له من عقل إلا وينقضه المنطق الصريح والاطراد الصحيح. (وهذا في زمننا الآن بعد الانفكاك عن الذهب وظهور النظام الاقتصادي الجديد وبعد ظهور ما يسمى المصرفية الإسلامية).
وأسوق هنا مثلا ربانيا لشيخ من شيوخ كبار العلماء ألا وهو الشيخ صالح اللحيدان. فقد سألته حديثا - حفظه الله - عن تأصيله للفلوس المعاصرة، حيث إنه كان من المتوقفين عن قياسها بالنقدين شأنه شأن ابن حميد والشنقيطي وعفيفي وابن غديان في فتوى هيئة كبار العلماء عام 1993هـ (وجميعهم - رحمهم الله - قد علمت رأيهم وتأصيلهم لها ما عدا سماحته - حفظه الله - وابن غديان). فقال لي الشيخ صالح: «قد نسيت، فهذه مسألة لها أكثر من أربعين سنة، متى مات ابن حميد - رحمه الله»، ونصحني بجعلها بحثا لنيل درجة علمية، فلم أملك إلا أن قبّلت رأسه وانصرفت بعد أن ازداد عندي احتراما وتوقيرا ومهابة. فالشيخ على علمه وفضله وصرامته لم يجد حرجا أن يقول قد نسيت، وفوق ذلك فهو لم يجهلني ولم يكبتني بل نصحني على جعلها بحثا علميا لنيل درجة علمية. هذا الموقف الرباني لشيخ من كبار العلماء يحكي أدب العلماء وورعهم ويضرب مثلا لغيرهم بأن لا يخوضوا في مسائل لا يعلمون أصولها ولا يُجهلون غيرهم ظلما وعدوانا بغير علم.
خرج علينا الدكتور صلاح آل الشيخ بتعقيب جديد في هذه الجريدة بعنوان «الأوراق النقدية.. الخوض في العلم بلا علم»، تطاول فيه - هداه الله - على صفوة من علمائنا - رحمهم الله - كابن سعدي وابن حميد وابن بسام وابن عثيمين فوصفهم بالجهل إصرارا منه وعمدا. وقد أتى فيه بمزيج عجيب من الخلط والخطأ والتدليس والتلبيس، كالاستشهاد باعتبار القياس على الأحكام التعبدية، وكخلط العلة بالحكمة وكعدم التمييز بين إطلاق العلة وقصرها. وقد تقوّل على العلماء ما لم يقولوه، وأنكر الزكاة في كثير من الأموال، وأخفى من الفتاوى ما لا يحتمل إخفاؤه في مواقع الخلاف. وهو فوق ذلك كله قد خلت كتاباته من أي منطق أو تسلسل فكري صحيح. ومن الإيجاز إلى تفصيل مختصر.
فهل الدكتور صلاح لا يدري أن القياس لا يجري على الأحكام التعبدية كالصلاة والصيام، ولا يفرق ألبتة بين «العلة» و»الحكمة»، ولا يفهمُ معنى «إطلاق العلة» و»قصر العلة»؟ فقد أورد في تعقيبه من باب المحاجة لي ما نصه: «والظن بك عدم القول بانتفاء الحكم من الأصل إذا انتفت العلة فيه، فإذا زال الظلم في رأي فلان من الربا صح، وإذا زال الإسكار من الخمر حلت، وإذا لم تتحقق التقوى من الصوم فلا صوم، والنهي عن الفحشاء من الصلاة فلا صلاة» انتهى. وهذا الاقتباس من تعقيب الدكتور صلاح يُظهر بوضوح أنه لا يجوز له الخوض في أي من الأحكام الفقهية، فقد خلط بين الحكمة والعلة، فجعل «الظلم» علة للربا، بينما هي حكمة غير منضبطة فلا يقاس عليها، وهي قد انقلبت الآن فأصبحت على المقرض لا المقترض بسبب تناقص القيمة للفلوس. كما أخطأ في فهم «إطلاق العلة»، فأتى بمثال الخمر إذا لم يكن مسكرا، فقرر أن زوال الإسكار لا يزيل الحكم الشرعي للخمر (أي أنه قصر العلة ولم يطلقها، فعليه فغالب ما يسمى بالمشروبات الروحية كالويسكي والبيرة بالكحول لا يدخل تحت تحريم الخمر)، وبطلان هذا ظاهر لكل أحد، حتى لعمال السوبر ماركت الذين يبيعون البيرة وعصير العنب عندنا في الأسواق!!. ثم أتى بأحكام تعبدية لا يقاس عليها، وهي الصلاة والصيام، فجعل بعض حكمها عللا ولا أدري على ماذا قاسها؟ فنحن في خلاف قياس الفلوس على النقدين. والقياس إلحاق فرع بأصل بعلة تتحقق في كليهما. فهل الدكتور صلاح يوجب الصيام في الأشهر كلها إذا تحققت الحكمة (العلة عنده) وهي التقوى. وكذلك من تنهاه الصلاة عن الفحشاء (وهي حكمة من الحكم جعلها صلاح علة) فعليه أن يصلي أبدا. هذا ليس نقاشا ولا محاجة، بل صف كلام وإيراده بلا معنى ولا مناسبة، وهو فوق ذلك لا يصح وخطأ لا يغتفر. وهذا الخلط العظيم كاف لرد ما يقول. أورد الدكتور صلاح قوله - صلى الله عليه وسلم: «بين يدي الساعة يظهر الربا، والزنى، والخمر». ثم قال: «فيلزم الدكتور حمزة - هداه الله - من قوله بعدم وقوع الربا في الأوراق النقدية، قلة الربا وعدم ظهوره في هذا الزمان، وهذه معارضة لخبر الصادق»!!. وأقول: سبحان الله؟. فلماذا نمنع الاختلاط إذن؟ ولماذا لا نعمل على صناعة الخمور؟ ولما لا ننشر الفساد لكي يصدق الحديث؟ هل هذا منطق؟ أليس هذا هو نفس منطق غلاة النصارى في دعم اليهود في فلسطين، والإثني عشرية في غيبة المهدي وظهوره؟ فهل لنا إذن أن نفترض (بناء على هذا المنطق) بأن ما ينشره الدكتور صلاح من الجهل في أصول الفقه وفي فقه النقود والبنوك وفي ضعف المنطق هو من أجل تأكيد الأحاديث التي تنبأت بانتشار الجهل في آخر الزمان؟!
أصر الدكتور صلاح - هداه الله - على سوء الأدب مع شيوخ كبار العلماء، فقال بعد ذكره لمن يلحق الفلوس المعاصرة بالفلوس القديمة: «وقد تنبه الشيخ محمد بن إبراهيم إلى ما قد يؤول تشبيهها بالفلوس، فجهَّل هذا القول، سداً للذريعة»، فهو يستند إلى قول محمد بن إبراهيم، ليجهل كل من ألحق الفلوس العاصرة بالفلوس كابن سعدي وابن حميد وابن بسام، وكذلك ابن عثيمين الذي استشهد به الدكتور صلاح في المسألة نفسها. والدكتور صلاح غير معذور هنا، وقاصد لذلك، فقد كتبت في ذلك مقالين توضيحا له في هذه النقطة بالذات.
قال الدكتور صلاح ما نصه «الاستدلال بفتوى هيئة كبار العلماء، والشيخ محمد بن إبراهيم، في جواز بيع الحيوان بالحيوان متفاضلاً، استدلالٌ في غير محله. فحكمُ التفاضل في الحيوان المنصوص عليه، ليس كحكم التفاضل في النقدين المنصوص عليه»، وأنا لن أناقش هنا في موضوع هل جواز التفاضل في الحيوان هو حكم خاص أو عام؟ بل سأتبع منهج إبراهيم - عليه السلام (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأتِ بها من المغرب). فأقول: أو لم تفت لجنة الإفتاء الدائمة برئاسة الشيخ ابن باز في فتوى 3791 بجواز بيع ثياب متر واحد بمترين مؤجلا. وهذا نص الفتوى «س: هل يجوز بيع ثياب متر واحد بمترين أو صنفان بصنف واحد؟ ج «يجوز إبدال الثياب بعضها ببعض مع التساوي، أو زيادة بعضها على بعض سواء كانت من جنس واحد أم أكثر، وسواء كان ذلك عاجلاً أو لأجل ؛ لأن القماش ليس من الأجناس التي يدخلها الربا». انتهى فهل القماش يعد من الحيوانات عند الدكتور صلاح أم أنه سيُلحق اللجنة الموقرة بالجهلة لأنهم خالفوه كما فعل من قبل في تجهيله العلماء الذين ألحقوا الفلوس المعاصرة بالفلوس القديمة؟!
وللحديث بقية عن «كيف أصبح الجهل والتلبيس ديانة يتقرب بعضهم إلى الله بها وهم في ذلك يحسبون أنهم يحسنون صنعا».