أسرار العلاج باللمس

يحز في النفس منظر طفل يجري ليرتمي بين يدي مربيته إذا جاز التعبير أو الخادمة بينما تقف أمه بجانبها مكتوفة الأيدي دون أن يعيرها أي اهتمام وقد تناديه فلا يجيبها، فهي التي تحمله إذا بكى وتطعمه بيدها ويجلس في حضنها وهو يشاهد برامجه المفضلة وتجدها بقربه وهو يلعب وتمسح على رأسه قبل أن ينام، ورغم أن هذا الحنان قد يكون مزيفا أو من باب تأدية الواجب (إلا ما ندر)! فهذا القرب ولمسات الحنان هما سر تعلقه بها، وبكاء الأطفال ومرضهم عند مغادرة خادماتهم.
فجيل عن جيل تتسع الفجوة بين الأم وأبنائها جسديا ومعنويا نتيجة الظروف البيئية والجينية التي تتأثر بتعامل الأم مع أبنائها في كل جيل، وهذا ما أثبتته دراسة أجريت في جامعة كولومبيا في قسم النيوروبيولوجي نشرت في الشهر الماضي تقول إن لمسات الأم على بطنها أثناء حملها وطريقة حملها لطفلها بعد ولادته ولمساتها الحانية عليه تؤدي إلى تبدل في جينات الأطفال خصوصا الإناث فتكون أماً حنونة وقريبة من أطفالها في المستقبل (أي تحدد صفات أم المستقبل) وأيدت ذلك بدراسة سلوك القردة والجرذان.
في الحرب العالمية الثانية زاد في أمريكا عدد الأطفال اليتامى والمشردين فعملت لهم ملاجئ على درجة عالية من العناية، وبلغ من شدة حرص طاقم التمريض على هؤلاء الأطفال ارتداء القفازات وعدم لمس الأطفال مباشرة، ورغم ذلك زاد عدد الوفيات بين الأطفال ما عدا عنبرا واحدا كانوا أكثر هدوءا وطاعة وأقل وفيات، ولما بحثوا عن السبب وجدوا أن جارتهم العجوز تزور هؤلاء الأطفال وتمسح على رؤوسهم وتحتضنهم، فالذين حرموا من اللمس زادت نسبة الوفيات لديهم وكذلك التخلف العقلي.
وفي كوريا وجد الباحثون أن قضاء 15 دقيقة من سيدات متطوعات مع الأيتام أدى إلى زيادة أوزانهم وأطوالهم خلال أربعة أسابيع مقارنة بالأطفال الآخرين الذين لم يخضعوا للتجربة نفسها، أما بالنسبة للبالغين فإن لمس الجلد سواء بالمصافحة أو المسح أو العناق والتربيت يقلل الإجهاد والألم كما يقلل من أعراض مرض الزهايمر.
ولا تقتصر أهمية اللمس على الإنسان فقط فمربو المواشي والخيول والفلاحون يعرفون أن الثدييات تقوم بلحس صغارها عند ولادتها لاستمرار حياتهم، كما يكثرون من لمس والتربيت على حيواناتهم لما عرفوا من أثر ذلك على سلوكها، لاحظ القطط مثلا عندما تحملها وتمسح عليها تشعر بالأمان وتقترب منك أكثر وتتمسح بك لتستمد منك طاقة تسعدها. وهذه العلاقة الوثيقة بين لمس الجلد وصحة الإنسان والحيوان البدنية والنفسية حفزت بعض الجامعات على إنشاء معاهد مختصة بأبحاث اللمس، ففي أحد هذه المعاهد الذي أنشأه الدكتور تيفاني في جامعة ميامي (وهو أول معهد في العالم لدراسة حاسة اللمس) يكتشفون فيه أسرار الجسم من خلال الجلد ويعالجون كثيرا من الأمراض وأعراضها بالأيدي الدافئة التي تؤثر في زيادة أو تثبيط هرمونات الجسم المرتبطة بهذه الأمراض مثل هرمون التوتر(الكورتيزول) والأندورفينات وهي هرمونات تعرف بقاتلة الآلام.الجلد هو أكبر أعضاء جسم الإنسان مساحة، ففي كل سنتيمتر مربع من الجلد ثلاثة ملايين خلية بين عرقية وعصبية وذهنية وشعرية ودموية، يقول العلماء إن الخمسة ملايين خلية عصبيه الموجودة في الجلد تحتاج إلى لمسها للمحافظة على حيويتها وحياتها فالجلد حين لا يلمس يمرض فهو مصدر الإحساس الرئيسي فبواسطته ندرك ما حولنا لذا سماه العلماء (المخ الثاني). قال تعالى (كلما نضجت جلودهم بدلناهم جلودا غيرها ليذوقوا العذاب) فالكثيرون يشعرون أن شيئا قد مات فيهم حين يفقدون لمس جلودهم، لذا حث النبي صلى الله عليه وسلم على السلام والمصافحة، وعندما شكا إليه أحد الصحابة قسوة قلبه نصحه بالمسح على رأس اليتيم لما في ذلك من إشاعة الحب والسلام والرحمة، ونتيجة للتقدم التكنولوجي يعاني الأمريكان وباء اكتشفه الدكتور تيفاني أطلق عليه اسم (جوع الجلد).
هناك كثير من أسرار اللمس لم تكتشف بعد وحتى ذلك الوقت لنفتح أيدينا ونحتوي أبناءنا وآباءنا وأمهاتنا وكل من يحتاج منا إلى لمسة حنان حرم منها مثل الأيتام واللقطاء كبار السن ولنبدأ من الآن.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي