لو كان الفقر رجلا لقتلته
الفقر داء يدمر الإنسان, ولن أقول ظاهرة اجتماعية اقتصادية سياسية فحسب, إذ من العار أننا مازلنا نعاني هذا الداء الذي ينخر في الجسد البشري في أنحاء عديدة من العالم, خصوصا دولنا العربية النفطية. ومن العار أن تفشل الجهود التي تبذل لمواجهة هذا الداء في معظم دولنا العربية والإسلامية, فعلى الرغم من ثرواتنا الوفيرة، ورغم صفات التكافل الاجتماعي التي نادى بها الإسلام, رغم ما يقال إنها جهود الأمم المتحدة للقضاء على الفقر, وعلى الرغم من تطوّر اقتصاد السوق, ولا سيما بعد فشل الأنظمة الشيوعية إلى ما أصبح يسمى (العولمة) التي تتميز بتشابك المصالح والعلاقات الدولية, ولا سيما في المجال الاقتصادي، ثم عمّ جميع الميادين تقريبا كنتيجة تبدو طبيعية للثورة التكنولوجية والمعلوماتية. وقد تسارع نسقها في العقد الأخير ورفعتها الدول الغنية شعارا, كثيرا ما قُدّم حلا يكاد يكون سحريا لقضايا التخلف والفقر في العالم، وذلك بفضل ما تمّ التبشير به من رفع نسب النموّ وتحقيق التنمية للجميع.
لكن شتان ما بين الشعار والواقع، كما يقول الدكتور الطيب البكوش رئيس المعهد العربي لحقوق الإنسان في دراسته عن الفقر وحقوق الإنسان, فجميع التقارير تؤكد عكس ذلك, فالعولمة لم يستفد منها إلا الأغنياء إذا استثنينا 12 بلدا ناميا استفادت منها فعلا.
خلال هذه الفترة، أي منذ بداية التسعينيات، حيث أخذ نسق العولمة في التسارع، تقلص الناتج الداخلي العالمي، واتسعت الهوة بين البلدان الغنية والفقيرة، وتزايد عدد الفقراء في العالم إذ فاق المليارين من البشر. وتزايد عددهم حتى في أغنى البلدان مثل الولايات المتحدة نتيجة سوء التوزيع فقد ارتفع عدد الفقراء سنة 2001 من 32.9 مليون فقير إلى 34.6, أي بزيادة 1.7 مليون فقير في سنة واحدة. وأصبح (العالم اليوم جزيرة أغنياء تحيط بها بحار من الفقراء) كما وصفه مبيكي الرئيس الجنوب إفريقي في مؤتمر الأرض في جوهانسبيرج عام 2007.
معضلة الفقر التي تزداد يوما بعد يوم رغم التقدم الذي أحرزته البشرية في شتى المجالات, وبينت التجارب أن تحقيق النموّ لا ينجر عنه ضرورة تحقيق التنمية البشرية إن لم يصاحبه ( توزيع عادل نسبيا). البشرية حققت في الثمانينيات نسبة نموّ عام محترم لكن ذلك لم يمنع زيادة عدد الفقراء المدقعين في الفترة نفسها زيادة قدرت بـ 100 مليون فقير جديد.
الفقر لم يعد ظاهرة خاصة بالدول الفقيرة التي دمرت اقتصاداتها الحروب والفساد الإداري, التي لا يجد أفرادها ما يأكلونه سوى فتات الأرض وبقايا الحيوانات الميتة من جدب الأرض وجفافها.
العولمة حققت لبعض البلدان نموا اقتصاديا وزيادة ثروة، لكنها زادت في فقر بلدان أخرى، كما زادت – حتى في بعض البلدان المستفيدة – من فقر شرائح من المجتمع لم تشملها ثمار النمو ولم تتحول إلى تنمية بشرية.
ذكر الدكتور الطيب البكوش (لا أحد يستغرب وجود الفقر في مجتمع ما لأنه موجود في جميع المجتمعات، وكأنما هو من خصائص كل مجتمع، إلا أن الفرق يبقى في درجة الفقر ونسبة الفقراء في المجتمع. أما اليوم، فإن الرأي الذي أخذ يسود في العقود الأخيرة ولا سيما في السنين الأخيرة، هو أن الفقر شكل من أشكال الإقصاء والتهميش ومسّ بكرامة الإنسان، ومن ثمّ فهو انتهاك لحق جوهري من حقوق الإنسان ينجرّ عنه انتهاك لعديد من الحقوق المتفرعة، منها الحق في الشغل والدخل المناسب والعيش الكريم والضمان الاجتماعي والصحة .. إلخ. وهي حقوق اقتصادية واجتماعية أساسية).
وأوضح: «إن من أهم الأسباب الداخلية للفقر هو طبيعة النظام السياسي والاقتصادي السائد في بلد ما, فالنّظام الجائر لا يشعر فيه المواطن بالأمن والاطمئنان إلى عدالة تحميه من الظلم والعسف. ويستفحل الأمر إذا تضاعف العامل السياسي بعامل اقتصادي يتمثل في انفراد الحكم وأذياله بالثروة بالطرق غير المشروعة نتيجة استشراء الفساد والمحسوبية، فيتعاضد الاستبداد السياسي بالاستبداد الاقتصادي والاجتماعي، وهي من الحالات التي تتسبب في اتساع رقعة الفقر حتى عندما يكون البلد زاخرا بالثروات الطبيعية كما حدث ويحدث في عدة بلدان إفريقية أو في أمريكا اللاتينية، هذا فضلا عن الحروب الأهلية والاضطرابات وانعدام الأمن.
أما الأسباب الخارجية فهي متعددة، وهي أعقدُ وأخفى أحيانا. من أكثرها ظهورا الاحتلال الأجنبي كما حدث في العراق أخيرا بعد حصار دام أكثر من عقد تسبب في تفقير شعب بأكمله رغم ثرواته النفطية. ويتعقد الأمر كثيرا إذا كان الاحتلال استيطانيا كما في فلسطين حيث تتدهور حالة الشعب الفلسطيني يوما بعد يوم وتتسع فيه رقعة الفقر نتيجة إرهاب الدولة الصهيونية وتدميرها المتواصل للبنية التحتية وهدم المنازل وتجريف الأراضي الفلاحية فتتحول مئات العائلات بين يوم وليلة من الكفاف إلى الفقر المدقع.
ومن الأسباب غير الظاهرة للعيان نقص المساعدات الدولية أو سوء توزيعها في البلدان التي يسود فيها الفساد في الحكم.
ومن الأسباب التي لا يعرفها عادة غير أهل الاختصاص - كما يقول - لأنها من أخفى عوامل التفقير للبلدان النامية التي يعتمد اقتصادها خاصة على المنتوج الفلاحي وبعض الصناعات التحويلية، الحمايةُ الجمركية التي تمارسها البلدان الغنية في وجه صادرات البلدان النامية، وبالخصوص الدعم المالي الذي تقدّمه لفلاحيها حتى يُنافس منتوجُهم الفلاحي صادراتِ البلدان النامية، وقد بلغ مقدار هذا الدعم رقما مهولا يقارب المليار دولار يوميا»!
في عالمنا العربي كم هو مؤلم أن نجد عديدا من الأثرياء في عالمنا العربي ينطبق عليهم صفة (السفهاء ) أو (المبذرين) إذ إنهم يتمتعون بأموال مكدسة لم تؤثر فيها النكسة الأخيرة المالية إلا قليلا رغم أنها عمت العالم نتيجة الفساد الإداري والنظام الربوي الذي أكل الأخضر واليابس لعديد من هؤلاء الأباطرة الأثرياء, يبذرون أموالهم في شراء مزيد من الكماليات التي يتباهون بها في محيط من الفقر لمن لا يجدون لقمة عيش تسد رمقهم, بينما نجد هؤلاء الأثرياء يحرقون أموالهم في شراء يخوت فاخرة وقصور متعددة في أنحاء العالم, وطائرات خاصة مترفة ربما ثمن المقعد فيها فقط يكفي ألف أسرة للعيش بكرامة!
هذه الأموال التي للفقراء نصيب فيها من خلال نظام الزكاة في الإسلام الذي يسهم بفاعلية كبيرة في القضاء على الفقر في المجتمع المسلم؛ إذ إنها تستهدف الفقراء في المقام الأول، وتذهب لسد الحاجات الأولية لهم؛ بل إن المهمة الأولى للزكاة هي علاج مشكلة الفقر علاجا جذريا أصيلا لا يعتمد على المسكنات الوقتية، أو المداواة السطحية الظاهرية، حتى أن النبي -صلى الله عليه وسلم- لم يذكر في بعض الأحيان هدفا للزكاة غير ذلك، كما في حديثه لمعاذ حين أرسله لليمن، وأمره أن يعلّم من أسلم منهم أن «الله افترض عليهم صدقة في أموالهم تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم».
كلما قارنا موت الفقراء من الجوع بهذه القصور والكماليات, خصوصا لمن لا يطهر هذه الأموال بالزكاة, تذكرنا الحديث: «عن أبي سعيد الخدري - رضي الله عنه - أن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - قام على المنبر فقال: «إنما أخشى عليكم من بعدي ما يفتح عليكم من بركات الأرض. ثم ذكر زهرة الدنيا فبدأ بإحداهما وثنّى بالأخرى. فقام رجل فقال: يا رسول الله أوَ يأتي الخير بالشر .. إن الخير لا يأتي إلا بالخير .. وإن هذا المال خضرة حلوة، ونعم صاحب المسلم لمن أخذه بحقه، فجعله في سبيل الله واليتامى والمساكين، ومن لم يأخذه بحقه فهو كالآكل الذي لا يشبع، ويكون عليه كلاهما يوم القيامة).
وفي رواية، بعد قدوم الصحابي بأموال الجزية، قدم الأنصار إلى الرسول - صلى الله عليه وسلم - يريدون نصيبهم، فتبسم الرسول -صلى الله عليه وسلم - وعلم أنهم قدموا لأجل ذلك، ثم حذرهم من التنافس على الدنيا بعده، فعن عمرو بن عوف الأنصاري عن رسول الله -صلى الله عليه وسلم - «... والله لا الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى أن تبسط عليكم الدنيا كما بسطت على من كان قبلكم، فتنافسوها كما تنافسوها، وتهلككم كما أهلكتهم).
** إن القضاء على الفقر سيؤدي إلى اختفاء أو تقليل الظواهر الأخرى المرتبطة بالجريمة والانحرافات السلوكية المتعددة التي تنهش في الشبكة الاجتماعية للمجتمعات الفقيرة ويحقق مفهوم العدالة الاجتماعية.