هل سيرتهن حكماء قومي الرهن العقاري؟
يعجب الإنسان كيف تسيطر خرافة أو كذبة على أمة من الأمم فيستسلم لها عقلاؤها وبسطاؤها على سواء! أم أنه عجب من غير أمر عجيب؟ فكيف لا تسيطر الخرافة وقد سلم أهل العقول عقولهم لغيرهم، وحشد البسطاء هممهم نصرة لمن ضيق عليهم أمرهم وتسلط على أموالهم ومنع الفقراء (بفقه الاحتياط) كثيرا من الزكاة. ونحن في غلبة تسلط الدجل والأساطير على ثقافتنا وتغييب الحقائق في مجتمعنا لسنا ببدع من الأمم، فلكل أمة من الأمم - قديما وحديثا - نصيب من ذلك قل منه أو كثر. فهل ستُفرض صناعة التدليس فرضا إجباريا على نظام الرهن العقاري؟
ولكي يتمكن القارئ الكريم من تبني حكم مستقل يدين الله به ويرتضيه لنفسه فسأعمل جهدي (من خلال سلسلة مقالات) على تبسيط شرح 15 نوعا من أنواع الرهن العقاري وكيفية توريقها لبيعها في سوق السندات والأحكام الشرعية المتعلقة بهذه البيوع من حيث الصحة والبطلان ومن حيث الربوية وعدمها, كما سأوضح الصورة التقليدية لها وما يقابلها من الحيل الصورية لما يسمى المصرفية الإسلامية.
أكثر أنواع الرهن العقاري انتشارا وسهولة ووضوحا هو أن يقدم البنك تمويلا للراغب في شراء منزل على أساس سعر فائدة معين لا يتغير, يكون تسديده خلال مدة معينة (غالبا ما تكون إما 15 أو 30 عاما). فهناك إذن ثلاثة أشخاص: بائع المنزل, والمشتري, والبنك. فلو كان سعر المنزل مثلا مليون ريال يدفع منها المشتري 20 في المائة (200 ألف ريال) ويدفع البنك 80 في المائة (800 ألف ريال) لبائع المنزل ويرتهن البنك صك الملكية الذي سيصبح باسم الشاري، أي أن الشاري يمتلك المنزل امتلاكا حقيقيا له ربحه من ارتفاع سعر المنزل وله خسارته من انخفاض سعره، ويرتهن البنك المنزل مقابل التمويل المقدم. يحسب هذا التمويل على أساس سعر فائدة ولنقل مثلا 4.85 في المائة أي في هذا المثال تساوي 3 في المائة متراكبة (الطريقة السعودية) فيكون مجموع الفوائد المدفوعة لـ 30 عاما هي 720 ألف ريال تضاف إلى مبلغ التمويل, وهو 800 ألف ريال ليصبح المجموع 1.520.000 ريال تقسط على 360 شهرا بقيمة 4222 ريالا لكل قسط. هذا المثال هو أساس أي رهن عقاري بل أساس كل تمويل يُسدد الأصل فيه مع الفائدة عبر دفعات مقسطة. سواء أكان هذا التمويل تقليديا أو غير تقليدي (تسمى فيه الفائدة إجارة ويسمى الرهن فيه مشاركة أو يكون بيعا وشراء صوريا خاليا من النية والقصد أو يكون بيعا ثلاثيا - صورة من العينة).
والحكم الشرعي لهذا النوع الأول من أنواع الرهون العقارية يختلف باختلاف التأصيل للمعاملة وللسلعة وللثمن, فالمعاملة هي معاوضة محضة لا مدخل للإحسان أو التبرع فيها فهي ليست بقرض على التعريف الشرعي بل هي بيع 800 ألف ريال بـ 360 سندا. فعلى القول الشاذ (غير المنضبط) المعمول به حاليا فهذا البيع بيع ربوي، فالريالات عندهم من الأموال الربوية لأنها وسيلة للتبادل (وإن كانت ليست بمستودع للثروة ولكونها مما يباع ويشرى ما ينفي عنها صفة الثمنية). وأما السندات فهي وإن لم يكن فيها أي صفة من صفات الثمن (فهي تباع وتشرى في السوق وهي ليست وسيلة للتبادل) لكنهم يكيفونها على أنها تمثل قروضا. وهذا التكييف لا يخلو من نظر، فالمعاملة في أصلها بيع وليست بقرض. والبعض يخلط فيجعل السندات ديونا, والدين في معناه الضيق هو بيع المعدوم ويوسع المعنى على بيع الآجل أو بيع السلم, وأما إطلاقه على القرض فهو من باب التجوز اللفظي. (والمتأمل للتأصيل سيظهر له تخبط التكييف الفقهي في هذه المسائل عندهم فضلا عن تخبطهم في تأصيل الأموال الربوية). وأما على القول المتبع للكتاب والسنة وشبه إجماع السلف والذي لا يُدخل الريالات في الأموال الربوية فهذا البيع بيع صحيح وهو بيع ريالات بسندات, وكلاهما سلع, فهو نوع من أنواع المقايضة. وشاهد ذلك أن البنك يستطيع (لو كانت قيمة السندات كبيرة بذاتها أو بتجميعها ) من أن يبيع هذه السندات في سوق السندات كما لو أنه اشترى أسهما ثم باعها في سوق الأسهم, فهي تباع وتشرى بربح وخسارة كأي سلعة أخرى, كما أنها ليست وسيلة للتبادل. (وهنا تكمن أهمية سوق السندات فكلما مول البنك مشروعا عن طريق شراء السندات استطاع بيعها في سوق السندات وعوض السيولة التي فقدها, وهذا ليس مقتصرا على البنوك بل حتى الدولة والشركات يمكنها فعل ذلك على تفصيل يأتي لاحقا في مقالات قادمة).
هذا النوع الأول هو الأشهر والأكثر استخداما من الرهون العقارية, وهذا تخريجه الفقهي على القول بربوية الريالات والسندات أو عدمه. وبما أن صيرفة الحيل تعتمد القول الشاذ المشهور حاليا (وغير المنضبط) الذي يعد الريالات أموالا ربوية والسندات قروضا، فقد أتت هذه الصيرفة بمجموعة من الحيل سمتها ''منتجات مصرفية إسلامية'' سأتعرض لكل منها في مقال مع ما يقابله من أنواع الرهون العقارية المعروفة عالميا. واليوم نقف مع أرقى حيلة نقية عندهم وهي المرابحة الحقيقية. وسأترك القارئ مع الشيخ ابن عثيمين ليشرح المرابحة الحقيقية التي تقوم بها صفوة ما يسمى البنوك ''الإسلامية'' وحكمها.
قال الشيخ مجيبا عن سؤال المرابحة: ''يعني: مثلا يذهب إلى بيت التمويل يقول: أنا أريد السيارة فيشتريها باسمه وينقد الثمن ثم يبيعها على هذا الطالب بأكثر من الثمن مقسطاً! هذه حيلة على الربا، يعني: بدل من أن يقول: خذ 50 ألف ريال قيمة السيارة، وهي عليك بـ 60 ألفا إلى أجل، أتى بهذا البيع الصوري، بيت التمويل الآن لولا أن هذا الرجل جاء يطلب السيارة هل يشتري السيارة؟ لا، ولو أن طالب السيارة قال: أشتريها بقيمتها، بمعنى: تشتريها بـ 50 ألفا وآخذها منك بالتقسيط بـ 50 ألفا هل يقبل بيت التمويل؟ أقطع أنه لا يقبل، إذاً: ما الذي قصد بيت التمويل من هذه المعاملة؟ قصد الزيادة، فهذا - في الحقيقة - قرض بزيادة لكنه بحيلة (لفة), ومعلوم أن الله - عز وجل - لا تنفع عنده الحيل، فهو يَعْلَمُ خَائِنَةَ الأعْيُنِ وَمَا تُخْفِي الصُّدُور. فلو قيل لبيت التمويل: ما قصدك بشراء هذه السيارة وبيعها على هذا الرجل؟ لقال بكل تأكيد: إن قصده الزيادة، ولا يمكن أن يدعي أن قصده الإحسان إلى هذا الرجل أبداً.
يقول بعض الناس: - مثلاً- لو أن الرجل المشتري قال: لا أريد السيارة، قبلها بيت التمويل، فنقول: أولاً هذه حجة لا تنفع عند الله؛ لأن هذا الذي طلب السيارة هل سيتركها؟ لا يتركها وهو يريدها، ولهذا لو أحصيت ألف معاملة من هذا النوع ما وجدت واحداً منهم هَوَّن، فلا تغتر بعمل الناس.
والفائدة التي يأخذها هذا الرجل تعتبر ربا, والربا الصريح الذي تفعله البنوك أهون من هذا؛ لأن الربا الصريح ربا يدخل الإنسان فيه على أنه عاص لله ويحاول أن يتوب، أما هذا فيدخل فيه على أنه مباح، وهذا لا يجوز، اليهود تحيلوا على محارم الله بأدنى من هذا, حرم الله عليهم الشحوم قال: لا تأكلوا الشحوم، فماذا كانوا يصنعون؟ قالوا: نذوب الشحم ثم نبيع الشحم ونأخذ الثمن، الصورة الآن هل أكلوا الشحم؟ ما أكلوه ولا باعوا الشحم على طبيعته وأيضاً ذوبوه، حتى لا يقال: إنكم بعتم ما حرم عليكم وأكلتم ثمنه، فذوّبوه ثم باعوه وأكلوا ثمنه، والرسول عليه - الصلاة والسلام - قال: (قاتل الله اليهود! حرمت عليهم الشحوم ثم جملوها فباعوها وأكلوا ثمنها).
وكذلك أصحاب السبت حرمت عليهم الحيتان يوم السبت فابتلاهم الله وجعل الحيتان تأتي يوم السبت شُرّعاً على وجه الماء من كثرتها، وغير يوم السبت لا يرونها، فقالوا: ماذا نعمل؟ لا يمكن أن تذهب هذه الحيتان بدون أكل، عملوا شبكة يضعونها يوم الجمعة، فتأتي الحيتان تدخل في الشبكة يوم السبت فإذا كان يوم الأحد جاءوا وأخذوها, وقالوا: نحن ما صدناها يوم السبت، صدنا يوم الأحد, فماذا عوقبوا؟ عوقبوا في الدنيا يداً بيد، قال الله تعالى: ''فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خَاسِئِينَ'' فكانوا قردة تتعاوى والعياذ بالله.
لا يجوز - أبداً- أن نستحل محارم الله بالحيل إطلاقاً, وإن أفتاك الناس وأفتوك، فكر أنت بنفسك، هل هذا إلا حيلة؟ أما لو كان هذا بيت التمويل عنده سيارات يأتي زيد ويبيع عليه نقداً بخمسين، ويأتي عمرو ويقول: أنا أريدها مقسطة فيقول: بستين فهذه لا بأس، لكن كونه لا يشتري إلا لأجل يأخذ الربا هذا لا يشك الإنسان أن هذا حيلة''. انتهى. الشيخ ببصيرته يعلم أن البنك ليس بشركة عقارية, فالذي يمتلك المنازل ثم يبيعها بالتقسيط هي شركات العقار لا البنوك، فكيف لو رأى الشيخ - رحمه الله - ما يحدث الآن تحت اسم الأسلمة.
كل الحيل المقترحة ''لأسلمة'' التمويلات العقارية هي أشد وأعظم من الربا وذلك لأنهم أدانوا الله بالتحريم ثم استحلوه بأدنى الحيل. فمن يدين الله بأن هذه التمويلات هي من البيوع الربوية أو أنها قروض فليلتزم ولا يحتال عليها، لأن النية معتبرة عند الشيخ ابن عثيمين وعند العلماء وعند الناس عربهم وعجمهم وعند رب الناس ولم يهملها إلا صيرفة الحيل.
والشاهد مما سبق ليس الخوض في تحليل أو تحريم ورد ومردود وإنما الشاهد هو مخاطبة حكماء القوم شرعيا كما نخاطبهم عقليا ومنطقيا. فلم يُجبر الناس على مذهب ينادي به ويناصره المستنفعون منه مستغلين جهل الناس وعواطف البسطاء بينما يحرمه ويرفضه كبار أهل العلم.
لم يُجبر الناس على دين حيل أصحاب السبت من أجل شراء بيوتهم. من كان يدين الله (احتياطا) بأن التمويلات من الربا فهو بالخيار إما أن يترك وإما أن يضيف إلى ذنب الربا ذنب التحايل على الله. ومن كان يدين الله بأن التمويلات من البيوع الجائزة تأسيا برسول الله وجماهير السلف فليختر لنفسه طريقة التمويل المناسبة وهي أكثر من 15 طريقة باستخدام الرهن العقاري دون إجباره إلى اللجوء إلى صيرفة الحيل.
ما يسمى الصيرفة الإسلامية مآلها إلى الزوال مثلها مثل كل الصيحات البدعية التي ظهرت ثم بادت, وهي كلما انتشرت أدرك الناس سذاجتها وضحالتها، ولكن المصيبة أن ينجرف حكماؤنا مع التيار فيثبتوا اليوم ما يتبرؤون منه غدا. وغدا سيحمل العامة مسؤولية التخبط على الدولة بينما يظفر منظروها بالشهرة والمشيخة بعد أن يكونوا قد استنزفوا أموال المسلمين كما فعلوا في الأسهم وكما يفعلونه الآن من خنق لاقتصادات المسلمين.
الدين والوطن والأمة ليست معملا لتجارب أهل الطموح والنفوذ المتمسحين باسم الدين عن حسن نية أو سوء نية. من فتنة أفغانستان إلى فتنة حرب الخليج إلى فتنة ما يسمى الصيرفة الإسلامية, والدين والبلاد والعباد في شد وجذب نداوي آثار الفتن ونتجاهل, بل - مع الأسف - نناصر بداياتها. لا يرتهن الرهن العقاري بحيل أصحاب السبت فنضيف 40 سنة أخرى إلى وطن بمواطنين من غير موطن.