الوسام أم الحذاء؟!

أحاول أن أستوعب وأفهم ما حدث خلال الأيام السابقة من تناقضات سياسية تذهب العقل لمن يعتقد أن الأمور لا تزال في سياقها العقلاني, على الأقل لمن يحاول أن يكون متفهما لمجريات الأحداث وفق سياقاتها الحالية التي ترغمنا على تقبلها لأننا لا نملك سوى الطاعة لما يقوله أباطرة الأمم المتحدة!!
أولها وهو الأهم والأفضل, والأقوى, والذي لم يكن متوقعا من لجنة دولية تناقش قضايا حرب غزة المدمرة, والتي تعودنا في عالمنا العربي أن تكون دائما نتائجها في جانب المعتدي الصهيوني، ولكن الواقع أن ما حدث كان متميزا إذ إن هذه اللجنة الدولية أثبتت أن إسرائيل ارتكبت جرائم حرب في عدوانها على غزة. نحن نعرف ذلك والعالم شاهد الأحداث أمام عينيه في اللحظة نفسها. ولكن ما تخبئه كواليس القرارات الدولية دائما لا يكون إلا في صف المعتدي خصوصا إذا كانت دولة العدو الصهيوني.
شهدت مدينة جنيف في يوم 2/10/2009م، بعد أن قدم إلى مجلس حقوق الإنسان الدولي تقرير القاضي ريتشارد جولدستون الذي عد أول وثيقة دولية شاملة أثبتت ارتكاب إسرائيل قائمة طويلة من جرائم الحرب أثناء عدوانها الأخير على غزة. وهو كما ذكر عنه أنه قاضٍ مشهود له بالنزاهة والكفاءة وله تاريخ في تحري جرائم الحرب في رواندا ويوغسلافيا السابقة، رأس الفريق الذي تقصى حقائق الانتهاكات والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبت في القطاع. تصادف أن كان القاضي يهوديا ومن جنوب إفريقيا. والصفة الأولى قيل إنها حصنته ضد زعم العداء للسامية، وانتماؤه الثاني مكنه من أن يقف على حقيقة النظام العنصري، بكل ما يمثله من امتهان لكرامة البشر( رغم تحفظنا علي هذا التقرير الذي ساوى بين الجلاد والضحية للأسف)!!
أثناء عرض التقرير على المجلس يوم الإثنين 28/9/2009م الذي يفترض أن يصدر فيه المجلس قراره بشأنه، وحسب ما نشر أن المجموعة العربية بما فيها ممثل فلسطين كانت متحمسة للتقرير وراغبة في إحالة القرار إلى الجمعية العامة للأمم المتحدة، وبطبيعة الحال فإن الولايات المتحدة وإسرائيل كانتا رافضتين له. أما دول الاتحاد الأوروبي فقد كانت متململة، حتى أن مندوب السويد سأل أثناء المناقشة عن التداعيات التي يمكن أن يسقطها التقرير على عملية السلام الجارية، مستدعيا بذلك الحسابات السياسية الخارجة عن اختصاص المجلس، ومرددا الحجة الإسرائيلية التي تذرعت بأن من شأن تبني التقرير أن يصيب بالشلل جهود السلام الراهنة (التي نعرف مصيرها مقدما).
ولكن طلب تأجيل النظر في القرار لدورة المجلس المقبلة في آذار (مارس) من العام المقبل، من قبل مندوب فلسطين في الأمم المتحدة أجهض قضايا إنسانية ووحقوقا للأبرياء الذين لم تجف دماؤهم الطاهرة على أرض غزة وقبلها كل الجرائم التي عاناها الشعب الفلسطيني. ولا يزال إلى الآن تحت الحصار نتيجة لهذا الاحتلال الغاشم. علما بأن 33 دولة من أصل 47 عضوا كانت تعتزم الموافقة على التقرير!!
صدور قرار الإدانة في المجلس القومي لحقوق الإنسان كان مهما، إذ يسمح بتقديم كل القادة الإسرائيليين المسؤولين عن الجرائم التي ارتكبت في غزة إلى المحكمة الجنائية الدولية، ويفتح الباب واسعا لملاحقتهم حيثما ذهبوا خارج بلادهم. أيضا ذكر أن قرارا كهذا من شأنه أن يلزم جميع الدول الغربية التي تقدم مساعدات تسهم في دعم الجهاز العسكري الإسرائيلي بأن توقف تلك المساعدات.
إضافة إلى ذلك فإن القرار يوفر لمنظمات المجتمع المدني في أوروبا والولايات المتحدة سندا قانونيا قويا للمطالبة بفك ارتباط بلادهم مع إسرائيل، فيما يخص الأنشطة العلمية والأكاديمية التي تعزز القدرة العسكرية لإسرائيل باعتبارها دولة ثبت بحقها ارتكاب جرائم ضد الإنسانية. وبالطبع ستضع خطوطا حمراء لبعض الدول العربية التي تفكر الآن في التطبيع بلا مقابل مع هذه الدولة العدو.
وكما ذكر الدكتور برهان غليون: (كائنا من كان المسؤول الفلسطيني الذي اتخذ قرار مطالبة مجلس حقوق الإنسان التابع للأمم المتحدة بتأجيل مناقشة تقرير جولدستون بشأن الحرب الإسرائيلية على غزة، فإن ما حدث لا يشكل استهانة لا حدود لها بحياة الفلسطينيين الذين قضوا بسلاح الدمار الشامل الذي استخدمته إسرائيل، ولا بحياة أولئك الذين سيقضون به بعد الآن فحسب، بل يمثل أكثر من ذلك ضربة أليمة للقضية الفلسطينية برمتها، وخاصة لجميع أولئك الذين يكافحون في بيئة دولية معادية ومنحازة لتل أبيب في السراء والضراء، للكشف عن حقيقة ما يجرى في فلسطين، وتسليط الضوء على ما يعانيه شعبها من هدر للحقوق، وما تعتمد عليه إسرائيل في سعيها لتوسيع رقعة الاستيطان ولإبقاء الاحتلال، من انتهاكات خطيرة لحقوق الإنسان).
لن أناقش السياقات التي رافقت عملية إجهاض مناقشة هذا التقرير فالفضائيات تمتلئ بها كل مساء!! فالحقائق واضحة لا تبحث عن براهين توضحها!!
ولكن أتساءل بصفتي مواطنة عربية مسلمة حملت منذ الطفولة مع الإخوة الفلسطينيين الكره لدولة العدو, التي تقتل الأطفال كما يقتل المجرم كل حقيقة تدينه ويسمم المياه ويدمر الأشجار والأراضي, ويدير مجريات الأمور في كواليس الأمم المتحدة!!
كنت وما زلت أحلم مثل كل الشرفاء بالصلاة في المسجد الأقصى كما حلم الملك فيصل بن عبد العزيز ــ يرحمه الله.ـ وكما يحلم كل فلسطيني شريف يرفض لمس أي يد ملطخة بدماء أبريائه.
أجهض التقرير، وانهارت الثقة بالسلطة الفلسطينية التي اتخذته بناء على ضغوط ذكرها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، ودخلت قضية الوحدة الوطنية في أزمة حادة جديدة ، وأثبتت الولايات المتحدة أيضا في هذه المناسبة أن أسلوبها في العمل من أجل السلام، القائم على تأكيد حرصها على مصالح دولة العدو الصهيوني وإرضاء قادتها مهما كانت مطالبهم وممارساتهم، لا يعمل من أجل تحقيق تسوية عادلة تنهي النزاع في أرض فلسطين, ولكنه يقود بشكل مستقيم إلى تكريس الوضع القائم الذي تريده إسرائيل لاستكمال مشروعها الاستيطاني العلني والرسمي.
من هذا الحرص من الإدارة الأمريكية على مصالح دولة العدو، سأنتقل للحديث عن القضية الأخرى التي لم أجد لها قبولا منطقيا مثل سواي ممن فوجئوا بحصول الرئيس الأمريكي باراك أوباما على جائزة نوبل للسلام لعام 2009م, التي أدهشته هو شخصيا!! وأدهشت عديدا من الأمريكيين أنفسهم الذين لديهم الحرية في إبداء آرائهم وانتقاداتهم للرئيس دون ملاحقة الشرطة لهم كما يحدث في مجتمعاتنا العربية للأسف!!
وكانت لجنة نوبل قد منحت الجائزة للرئيس الأمريكي تقديرا لجهوده الاستثنائية في تعزيز الدبلوماسية الدولية والتعاون بين الشعوب. ورؤيته في سبيل إيجاد عالم خال من الأسلحة النووية!!
تصريح شمعون بيريز رئيس الكيان الصهيوني على هذا الحدث, وهو الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 1994م!! أن (قيادته تعني أن السلام أصبح أجندة حقيقية وأصلية)!!
ألا يفسر هذا كثيرا من الأسباب الحقيقية لحصول الرئيس أوباما على هذه الجائزة؟ خصوصا وعده لليهود بأن تكون (مدينة القدس العاصمة الأبدية لدولتهم كما قال)!
أما رأي الفائز بالجائزة العام الماضي، رئيس الوزراء الفنلندي السابق مارتي اهتيساري، فذكر: (لم نلمس حتى الآن سلاما في الشرق الأوسط، وصار واضحا أن هذه المرة أراد (مانحو الجائزة) تشجيع أوباما على التحرك في مثل هذه القضايا). أي كما ذكر في عديد من التعليقات أن الجائزة الآن تقدم ليس للعمل الحقيقي للسلام بل على (النوايا)! ومن ذاكرة الحروب المستعرة من قبل الإدارة الأمريكية منذ عام 2001م, أنها كانت في معظمها تقوم على النوايا!! تم احتلال العراق لأن هناك نية للرئيس صدام حسين لاستخدام السلاح النووي! الذي ثبت بطلانه بعد أن قتل الملايين! وتشرد مثلهم, وتم تدمير العراق. ومثلها أفغانستان!
** الخارجية الأمريكية في ردها على عاصفة الانتقاد لحصول الرئيس الأمريكي على الجائزة ومن قبل الجمهوريين على وجه الخصوص قالت: (أن تنهال علينا الأوسمة خير من أن نقذف بالأحذية)!!

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي