التدليس في تكلفة الرهن العقاري!

لم تكتف ما يسمى الصيرفة ''الإسلامية'' بأنها رفعت تكلفة التمويل على المسلمين، وأنها منعت المتمول من أن يتحرر من دينه عن طريق سداده مبكرا إلا أن يتفضل البنك بالتنازل عن الفوائد التي لا حق له فيها (لعدم استحقاقها) تكرما منه وإحسانا وعطفا (فيُحمد البنك بما لا يستحق)، بل أضافت إلى هذه المساوئ أنها أسهمت إسهاما فاعلا في تضليل المواطن السعودي, خاصة عن التكلفة الحقيقية للتمويل الذي يحصل عليه من البنك أو من شركات التقسيط. معرفة تكلفة التمويل الحقيقية شرط من شروط صحة البيع شرعا (وهو ما تتجاهله صيرفة الحيل وتدلس فيه) وهو حق يجب أن تضمنه الدولة بالقانون. هذه المعرفة لا تستلزم إدراكا للعلوم المالية بل مجرد توضيح لقيمة السلعة من غير تدليس. السلعة هي الريالات والسعر هو معدل الفائدة. هذه المسألة (التمييز بين تكلفة التمويل هنا أو هناك) مسألة واضحة بسيطة في جميع بلاد العالم لا تحتاج إلى تحذق حاذق وشطارة حاسب, بينما هي عندنا تحتاج إلى نباهة فطرية بجانب ماجستير في العلوم المالية مضافة إليها خبرة طويلة في كشف عمليات التزوير والتدليس.
قبل أن نستطرد في الرهن العقاري وأنواعه وما يمكن أن يقابلها عندنا من الحيل لنواكب ما يطلبه البسطاء، يجب أن نفهم تماما أن كل ما يحصل عليه المتمول بالآجل هو محسوب على أساس سعر الفائدة على ما تبقى من رأس المال في ذمة المتمول, سواء أكان هذا التمويل سيارة أو منزلا أو تمويلا استهلاكيا. سواء أكان عن طريق مباشر أو غير مباشر كالتقسيط أو الإجارة المنتهية بالتمليك أو السندات أو الرهن (وإن سمي بأسماء أخرى صورية كالمرابحة والصكوك والمشاركة). هذه الفائدة في عُرف بلاد العالم أجمع هي سعر التمويل. فعندما تبين ويُسعر بها المنتج التمويلي المراد تسويقه يستطيع الشخص العادي أن يتسوق ليحصل على أرخص سعر ويتجنب السقوط في براثن التمويلات العالية التكلفة. وفي بلادي ''لخصوصيتنا'' يُخفى هذا السعر (الفائدة) ويُستبدل بسعر يدلس فيه القيمة الحقيقية للتمويل يسمى بأسماء مختلفة تُمهر بختم هيئة استشارية.
في مقال الأسبوع الماضي شرحت النوع الأشهر من أنواع الرهن العقاري وأتيت فيه بمثال تمويل لمدة 30 عاما قيمته 800 ألف ريال وافترضت له سعر فائدة حقيقيا 4.85 في المائة أي 3 في المائة على الطريقة السعودية الممهورة بالختم ''الشرعي''. وتلقيت رسائل وردودا تستهول عظم المبلغ الناتج عن هذه الفائدة المتمثل في 720 ألف ريال والمتجمع خلال 30 عاما. وأقول: لو أننا أصبحنا ونظام الرهن العقاري بيننا والبنوك تمول المنازل لمدة 30 عاما بنظام الرهن بمعدل فائدة حقيقية مقدارها 4.85 في المائة (أي 3 في المائة على الطريقة السعودية) لأصبحنا مجتمعا اقتصاديا مثاليا تتحقق فيه أحلام الفلسفة الحقيقية (لا الخيالية الظالمة) للاقتصاد الإسلامي (بتدوير رأس المال من أجل الإنتاج على أساس قاعدة لا تظلمون ولا تُظلمون) التي قد تحققت فعلا في أمريكا. فسعر الفائدة بالجملة هو مجموع قيمة ثلاثة أشياء: التضخم والربح (الفرصة الضائعة من عدم الاستثمار) والمخاطرة. ومعدل فائدة حقيقي مقداره 4.85 في المائة قد لا يغطي حتى معدل التضخم لسنوات طويلة قادمة عندنا وذلك باستمرار النمو الاقتصادي - بإذن الله - واستمرار الربط بالدولار. وحتى مع تعويم العملة الخليجية الموحدة، فهي ستشعل تضخما عندنا في السعودية على الأقل حتى نصل إلى المستويات السعرية في قطر والكويت والبحرين (والعكس ممتنع لما سيؤدي إلى انكماش اقتصادي عندهم). وتفصيل ذلك يطول، ولكن الشاهد أن معدل فائدة بهذا المستوى لتمويل مدته 30 عاما في أوضاعنا الحالية هو في حقيقته تبرع من البنوك التي لا أظن أنها تتمتع بأريحية كهذه، ولن تفعله، ولا يستلزم منها ذلك. بل الدولة هي التي يجب عليها أن تدرس التدخل لتخفيض مخاطر التمويلات طويلة الأجل على البنوك. وذلك إما بدعم سوق السندات بتحريكها والتوقف عن السلبية الممارسة تجاهها حاليا أو أن تتحملها الدولة بشراء هذه التمويلات أو بضمان فرق أسعار الفائدة والتضخم في السنوات القادمة على طريقة السندات الحكومية الأمريكية المضمونة من التضخم. وذلك في حدود لا تشعل أسعار المنازل ومستلزماتها، ولكنها كافية لإنجاح بدايات الرهن العقاري وبدايات انتشار ثقافة الائتمان عندنا وامتصاص زيادة الطلب وقلة العرض للتمويلات. وقد يعترض مُعترض بأن قوى السوق هي الأسلم اقتصاديا وتثقيفيا للمجتمع في بدايات انتشار ثقافة الائتمان، وهي وجهة نظر قوية. وعلى كلٍ، فهذا ليس موضوع اليوم، وقد أشرت إليه من قديم في مقال بعنوان ''1 % من أموال الدولة المهاجرة تحل مشكلة الإسكان''.
وعودة إلى موضوع اليوم والعود أحمد، فالعجيب أن بعضهم يستكثر 720 ألف ريال قيمة فائدة لتمويل مدته 30 عاما وقيمته 800 ألف ريال ولا يستكثر بأن يدفع خمسة أضعاف هذه الفائدة لأنه قد دُلس عليه بسعر الفائدة السعودية ''الشرعية''، وبالمثال تتضح الصورة.
قبل أيام استشارني محب في عرض بشراء سيارة قيمتها حالة (كاش) بـ 89 ألف ريال أو بنظام التأجير المنتهي بالتمليك الذي عليه عرض ''سخي'' بإسقاط إيجار الشهر الأول والتكاليف الإدارية، على أن يكون الإيجار لمدة أربع سنوات بإيجار شهري مقداره 2241 ريالا بإمكانية شراء السيارة في نهاية المدة بـ 27 ألف ريال. فأخبرته بأن هذا تمويل فائدته 17.78 في المائة بينما هو يستطيع أن يحصل على تمويل لشراء السيارة (كاش) من بعض البنوك فائدته 6.57 في المائة (أي 3.5 في المائة بالطريقة السعودية).
وأقول ما غالى وتلاعب هذا الوكيل وغيره في أسعار البيع الآجلة إلا لأنه يصعب على المستهلك المقارنة بين أسعار الفائدة, وهي غير معلنة, وهو بجانب ذلك قد أمن المنع أو العقوبة. نظام التأجير المنتهي بالتمليك من أشهر طرق بيع السيارات في أمريكا, وذلك لكون مخاطرة ضياع مرهون التمويل منخفضة لأن السيارة مملوكة للممول وهي كذلك مؤمن عليها بالكامل كما هي الحال عندنا تماما. ولكن الفرق هو المغالاة عندنا في الفائدة نظرا لإخفائها، بينما الفائدة هناك تجدها هي المعلنة والذي يتنافس فيه وكلاء بيع السيارات.
ومثال آخر، فقد يعرض عليك بنك تمويلا مقداره 150 ألف ريال لمدة عشر سنوات بفائدة على الطريقة ''الشرعية'' السعودية مقدارها 5 في المائة بينما يعرض عليك بنك آخر مقدار التمويل نفسه لمدة 30 عاما بسعر فائدة 5.5 في المائة على الطريقة ''الشرعية'' السعودية. وقد يكون هو البنك نفسه لكنه يعرض عليك إعادة التمويل بدلا من 30 عاما إلى عشرة أعوام مدلسا عليك بأنه قد خفض عليك سعر الفائدة بـ 0.5 في المائة (سعودية) بينما هي في الواقع قد ازدادت رقميا من 8 في المائة إلى 8.69 في المائة وازدادت حقيقيا أكثر من ذلك. وهذا حدث كثيرا وخُدع به معظم الناس (وكلها منتجات ''إسلامية'' على طريقة صيرفة الحيل). والغبن هنا من وجهين: أولا زيادة الفائدة بـ 0.69 في المائة بدلا من انخفاضها بـ 0.5 في المائة كما يدلسون به على الناس. والوجه الثاني من الغبن هو أن سعر الفائدة على التمويلات طويلة الأجل يفترض بأن تكون أعلى بكثير من قصيرة الأجل وليس العكس. وتزيد خاصة في الدول النامية وذلك لحساب مخاطر التضخم والمخاطر السياسية والاقتصادية بما فيها تغير أسعار الفائدة. وضياع فرصة التمول بسعر منخفض هو من الغبن الصريح للمتمول وهو عادة ما يكون المواطن الذي لا يملك المقدرة على التمييز ولا يستطيع توظيف هيئة ''شرعية'' تُهندس المعاملات البنكية لمصلحته.
عند تأمل ما نحن عليه في هذا الباب، يخطر لي أن حال مؤسسة النقد وسكوتها عن وضع ''الفائدة السعودية'' المضللة للمواطن هو كحال ''الاحتياطي الفيدرالي'' في سكوته وتعاميه عن التجاوزات من مهندسي المشتقات ومن تمويل العاجزين عن السداد. فرئيس ''الاحتياطي الفيدرالي'' السابق (جرينسبان) قد أجبره تصادف توقيت هجوم الحادي عشر من سبتمبر مع دخول البلاد في انكماش اقتصادي حتمي على أن يُهندس فقاعة مالية في أمريكا تجذب الأموال وتنعش الاقتصاد إنعاشا وهميا بنمو اقتصادي لمدة ست سنوات قام على المنتجات المالية لا على المنتجات الحقيقية فحقق بذلك أهدافا استراتيجية عظيمة من أهمها دحر وإفساد نية القاعدة لكيلا تدعي أنها ضربت الاقتصاد الأمريكي الذي كان قد دخل فعلا في مرحلة انكماش قبل الحادث بستة أشهر (وما أكثر من سيطبل لهذا الادعاء عندنا لو حدث، وكم من خرافات وأساطير ستنسج وانتصارات كاذبة ستروى).
وأما مؤسسة النقد (والكلام تأملي بحت) فقد أجبرها الخنق الاقتصادي الذي كان ممارسا عندنا بسبب تحريم التمويلات إلى أن ترضى بطريقة صيرفة جحا من أجل أن تتدفق التمويلات، ولو من خلال سم الخياط، لكي تتنفس رئة الاقتصاد المحلي التي يستلزم منها اعتماد الفائدة المضللة لتوافق ''خصوصية صيرفة جحا'' عندنا.
يا حكماء قومي إن شرع الله قد ظهر والأمر قد تبين والمعطيات قد تغيرت والحيثيات قد زالت والحظر قد رُفع والغبن قد اتضح فلا تستصحبوا اسم الفائدة المضللة (المعمول بها عندنا الآن) إلى نظام الرهن العقاري فندخل في دوامة الجهل والتدليس لعقود أخرى وندفع البنوك والشركات دفعا إلى استغلال الجهل والتدليس لكي يظلموا الناس بمباركة الهيئات ''الشرعية''. ولأحاديث الرهن العقاري أغوار لم ينبش عنها بعد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي