المشاركة في الرهن العقاري عند الغرب وعندنا .. كيف غُيبت العقول؟!
اجتهد علماء في زمن مضى فقدموا الاحتياط على النص (مخالفين بذلك جماهير السلف) فقالوا بربوية الفلوس المعاصرة وألزموا الناس بتبعيات هذا الرأي المجرد عن النقل. ثم جاء من بعدهم فانقسموا إلى قسمين, القسم الأول هم جماهير كبار شيوخ العلماء، كابن حميد وابن بسام وابن عثيمين, الذين تركوا الباب مفتوحا لتجديد الحوار ونقض هذا الاجتهاد وذلك بإلحاقهم فلوسنا المعاصرة على الفلوس القديمة متجنبين خطورة تبعيات القول بنقدية الفلوس المعاصرة. أما القسم الثاني فهم غالب المجمعات الفقهية ونحوها التي أقفلت باب الاجتهاد بأقفال قد اهترأت ولم تعد قائمة (لتبنيهم فتوى قديمة قد زالت حيثياتها وظهرت محظوراتها وبانت خطورتها). إذن فعلى كلا الحالين فالأبواب قد شُرعت لتجديد الفتوى. وهي في انتظار المُجدد الرباني، وصفته هي عالم ملة زاهد مكتوب اسمه عند ربي في اللوح المحفوظ.
هذا الاجتهاد القديم متصاحبا مع ما مضى من منح الأراضي عشوائيا لقلة قليلة من المواطنين هما ما حرما السعودي من تملك منزل على أرض وطنه. فأما الاجتهاد القديم فمنع التمويل وخلق الطبقية المقيتة، وأعطى محتكري الأراضي شرعية في عدم دفع زكاتها مما شارك مع منحها للقلة القليلة إلى استحالة ملكية ابن الوطن أرضا على وطنه. ويا عجبي أوطن بلا موطن؟! فهل تغني شعارات الوطنية عن الانتماء الوطني والأمن النفسي الذي يوفره امتلاك المنزل لرب العائلة في زرع الطمأنينة على بُنياته وزوجه وطفله في حياته وفي حال موته.
قام المؤسس الأول ـ رحمه الله ـ بتوطين البادية، فأوجد الهجر للسكنى والاستقرار ووفر الوظائف لأبنائهم فتوحدت الدولة السعودية. وأدرك مؤسس الدولة السعودية المتقدمة المعاصرة، الملك الصالح المصلح عبد الله بن عبد العزيز الغيور على مجده ومجد وطنه, أهمية التوطين في استراتيجيات الدول وبناء الأوطان. فرسم خطة استراتيجية كبرى لتوطين الوطن من خلال بناء العقل السعودي بالابتعاث والجامعات وبناء البنى التحتية والمشاريع العملاقة وبناء المدن الاقتصادية والصناعية, ولم تغفل هذه الاستراتيجية عن بناء ثقافة الغيرة على الوطن بالحد من الفساد الإداري والمالي, هذه الاستراتيجية الكبرى هدفها الأكبر هو توطين الوطن, فلماذا تأخر حق امتلاك السعودي منزلا في وطنه؟
الرهن العقاري من الوسائل الأكثر أهمية لتحقيق حق امتلاك السعودي مأوى على أرض وطنه يكون ملائما لشرف انتسابه إلى هذا الوطن، فهل سيُرتهن الرهن العقاري لعقود قادمة بالحيل الصورية المكلفة والمضللة؟ ومن هنا كانت هذه السلسلة من المقالات في الرهن العقاري. وحديثنا اليوم عن المشاركة في الرهن العقاري.
المشاركة في الرهن العقاري من الطرق التي تتعامل بها البنوك الغربية دون الحاجة إلى هيئة «شرعية», لأن المشاركة عندهم حقيقية لا صورية, فلا تحتاج إلى تصديق هيئة لكي يسلم الناس عقولهم من غير مساءلة, فهم ـ أي الغرب ـ لا يؤمنون بتغيير المسميات دون أن يكون لذلك أثر حقيقي إلا إن كان من أجل الدعاية المضللة والتي يعاقب عليها القانون عندهم بينما تُبارك وتُبجل عندنا, لذا فالفرق بيننا وبينهم أن المشاركة عندهم حقيقية في أصل الملكية، تربح وتخسر حقيقة, أما عندنا فهي صورية ساذجة لا تتعدى كونها إعادة لاسم الرهن أو لحق الأولوية عند التصفية باسم المشاركة.
النوع الأول من صور المشاركة في الرهن العقاري عند الغرب هو ما يسمى Shared Appreciation Mortgages SAMs وصورته أن البنك يدخل شريكا حقيقيا مع مشتري المنزل مقابل أن يتنازل البنك عن جزء من الفائدة، فيربح البنك عند انقضاء مدة التمويل بارتفاع قيمة المنزل (فتكون عوضا عن الفائدة)، ويخسر الفائدة دون أصل التمويل عند حالة فقدان المنزل قيمته فيكون بذلك قد خسر فرصة الاستثمار بقيمة التمويل (وهو نادر الحدوث عندهم خاصة إذا كانت المدة 30 عاما). وكيفيته تختلف باختلاف بلاد الغرب كبريطانيا وأمريكا. وتختلف أيضا باختلاف العروض التي تقدمها البنوك ومؤسسات تمويل الرهن العقاري التي لا حد لابتكاراتها. ولكن بشكل عام هو تخفيض في سعر الفائدة عن المستوى العام نسبة وتناسبا مع مقدار كمية مشاركة البنك في ملكية المنزل, فكلما زادت ملكية البنك انخفضت الفائدة والعكس بالعكس. أي أن البنك يدخل شريكا في أصل البيت بتقديم تمويل منخفض الفائدة مقابل أن يشارك في ربح ارتفاع قيمة المنزل عند بيعه بعد 15 عاما أو أكثر أو عند موت صاحبه. واستخدام الفائدة للقياس بدلا من استخدام نسبة الملكية أو القيمة هو من أجل تحقيق العدالة وإعطاء المستهلك سعرا واضحا لا يلتبس عليه بتغير طول مدة السداد أو قصرها أو بتغير نسبة المشاركة بين بنك وآخر. (وهذا قد شرحته في المقال السابق), فالفائدة دائما تحسب على ما تبقى من رأس المال في ذمة المتمول بغض النظر عن المسميات وعن الهيئات «الشرعية». ومن مزايا هذا النوع من الرهن العقاري أنه يقدم للمتمول إمكانية أن يحصل على تمويل أعلى، أي منزل أغلى وأجمل وأكبر من مقدرته المالية ولكنه عادة ما ينتهي بحسرة كبيرة تقع غالبا على كبار السن الذين يجدون منازلهم وقد تضاعفت أقيامها عند انتهاء الـ 30 عاما، ما يجبرهم على أن يدفعوا للبنك قيمة هذه الزيادة التي عادة ما تكون أكبر بكثير من قيمة الفائدة لو أنهم اشتروا البيت بطريقة الرهن العقاري العادي. وقد يُجبرون على بيع المنزل لكي يتحصل البنك على ربحه وينتقلون إلى بيوت أخرى أقل قيمة.
وأما عندنا فمفهوم المشاركة لا تتعدى حقيقته أن يكون رهنا وإما أن يكون تمويلا بسعر فائدة متغير على حسب ما يتحذق فيه منتجو المنتجات الإسلامية ليحصلوا على تصديق الهيئات «الشرعية». فهو إما أن يكون مجرد تمويل جزئي للمنزل (غالبا 80 في المائة) بسعر فائدة ثابت ويرتهن البنك نصيبه ( 80 في المائة) من المنزل تحت اسم الملكية المشاعة في المنزل (وهذه تسمية مضللة لأنها لا ترتفع قيمتها مع ارتفاع قيمة المنزل ولا تنخفض بانخفاضه) والتي (أي هذه الملكية المزعومة) تتناقص كل شهر بسداد جزء من التمويل ويسمون ذلك شراء نصيب الشريك، ويسمون الفائدة إجارة، ويسمون هذا المنتج المشاركة الإسلامية وما هو إلا طريقة الرهن العقاري المحضة بتغيير الأسماء. وهذا المنتج «الإسلامي» هو الأظهر صورية والأقل مخادعة وتلبيسا وإضرارا بالمواطن.
وهناك طريقة أخرى في الغرب في المشاركة في الرهن العقاري تحدد مدة المشاركة بخمس أو سبع سنوات ويستلزم على المتمول بعد انقضائها أن يُقيم منزله بالسعر الجديد, فإما أن يبيعه بالقيمة الجديدة، أو يعيد تمويله على أساس قيمة البيت الجديدة ويأخذ كل من الطرفين ربحه (البنك والمتمول). وهذه الطريقة تزدهر عادة في بدايات الطفرات العقارية وتنعدم في أواخرها أو عند انفجار الفقاعة العقارية. وأما عندنا فتصبح منتجا إسلاميا تحت اسم المشاركة بتسمية التمويل الجزئي (80 في المائة) بالملكية المشاعة (وهذه تسمية مضللة لأنها لا ترتفع قيمتها مع ارتفاع قيمة المنزل ولا تنخفض بانخفاضه) ويسمون الفوائد إجارة لهذه الملكية للبنك والزيادة على الفوائد هي شراء جزء من نصيب البنك بحق الشفعة. فإذا مرت خمسة أعوام مثلا (حسب الاتفاق) قالوا سنعيد تقييم المنزل لكي نقيم الإجارة ثم يعيدون التقييم تماما لكي يتفق مع سعر الفائدة الجديدة صعودا ونزولا وليس بقيمة المنزل الحقيقية! ثم يعدلون القسط الشهري لتتفق مع سعر الفائدة ويسمون ذلك تعديلا على سعر الإيجار. وهذه طريقة خبيثة لاستغلال جهل الناس وغموض الصيرفة «الإسلامية». فهم عادة ما يلجأون إليها إذا ارتفعت أسعار الفائدة التي لا ترتفع عادة إلا مع النمو الاقتصادي والتضخم. وعلى كل الأحوال فالبنك يقوم بإعادة تمويل مصادره ليتفق مع الفائدة الجديدة. وهم في هذه الطريقة يتبعون الغرب ليس في التمويل عن طريق المشاركة لأن ذلك عند الغرب مشاركة حقيقية, ولكن يسمونها مشاركة, بينما يتبعون الغرب على طريقة الفائدة المثبتة لمدة خمسة أعوام مثلا ثم تعدل بعد ذلك. وهذه الطريقة موجودة في الغرب, خاصة في بريطانيا, وتكون تبعا لارتفاع الفوائد وانخفاضها في السوق.
ومن أنواع المشاركة عند الغرب ما ينبني على نفس الفكرتين السابقتين في المشاركة, ولكن المشارك يكون طرفا ثالثا غير البنك والمتمول equity participation mortgage وعادة ما تُجمع مجموعة من الرهون العقارية ويدخل طرف ثالث (عادة ما يكون صناديق أو مؤسسات استثمارية) تكون هي المشاركة حقا في هذه الرهون بدلا من البنك, وهذا يعد نوعا من أنواع التوريق. ولو وُجد هذا عندنا فسيؤسلم بطريقة صورية كالتي قبلها يتحمل فيها الطرف الثالث مخاطرة تغير سعر الفائدة لا ربح المشاركة الحقيقي فيباع هذا المنتج ويشرى كمشاركة «إسلامية». ولكنه عند التأمل في صورته المؤسلمة لا يتعدى في حق الطرف الثالث إلا كونه في الواقع تحوطا ضد تغير أسعار الفائدة. وما ندري لعله يصبح منتجا إسلاميا للتحوط ضد أسعار الفائدة. ولعل قارئ هذا المقال يخرج قريبا بهذا المنتج فتتغنى به الصيرفة «الإسلامية».
وفي هذه الأنواع الثلاثة من الرهون وما يقابلها من أسلمة صورية لها كفاية في هذا المقال لتجنب الإطالة. ولكن الشاهد هنا أن ما يسمونه أسلمة هو في الواقع مخادعة لا ترقى حتى لحيل الصبيان, وهو مع ذلك مضلل للمواطن ماديا تضلله على أن يختار أرخص تمويل, ومضلل كذلك نفسيا بإعطائه راحة نفسية كاذبة بأنه منتج إسلامي. إن مفهوم المشاركة في الغرب هو مفهومه نفسه في الفكر الإنساني أجمع: إلا كونه ربحا وخسارة مع ربح الأصل وخسارته. أما عندنا فيستخدم المفهوم نفسه للتسويق والتدليس ولكنه في التطبيق لا وجود له. الغرب يا قومي لا تخفى عليه مفهوم المشاركة ولا يُستغفل كما يُستغفل البسطاء عندنا، حيث إن عندهم قانون يمنع استغفال البسطاء. وكذا حكماؤه يرفضون أن تُنسب حضارتهم وثقافتهم للتدليس وانعدام المنطق فيمنعونها عندهم ويرتضونها عندنا، وللحديث في الرهن العقاري بقية.