نظام الأسعار والخدمات الصحية الحكومية .. اليوم وليس غداً!!

لنقف على مسافة بين المسافتين، فلا نسعى إلى خصخصة كاملة للقطاعات الصحية الحكومية، فهذه بالرغم من أهميتها وكفاءتها إلا أنها أشبه ببناء البيوت الرملية، ولا نعطي القطاع الخاص حقوق تشغيل وإدارة مثل هذه المنشآت الصحية الحكومية الكبيرة لأن التجارب السابقة في هذا المجال غير مُشجعة على تبني مثل هذه الطروحات.. يكفي أنها تتحدث عن نفسها من خلال ما حققته من إنجازات وهي بالتأكيد لن تُذكر. بل نقف على أرض صلبة وهي أرض الواقع ونعالج ما نستطيع معالجته ضمن الإمكانات المُتاحة لدينا، ومع مرور الوقت نستطيع تعميم تجربتنا، بل وتسويقها محلياً وعالمياً. رضوخنا للواقع الصحي الحالي بعلاته يضع المواطن الباحث عن الخدمة في حيرة من أمره فهو يُقارن بين ما يقدمه القطاع الحكومي والخاص من خدمات، حيث غدت المُقارنة نوعا من أنواع التجني على الواقع الحاضر بحلوه ومره. فلا مناص من الالتفات يمنةً ويسرةً قبل الحصول على خدمة صحية معينة تجعلك ترضى عنها ولو جزئياً، ولا أيسر ولا أسهل من الأخذ بتجارب الغير ممن سبقونا في هذه المجالات، ناهيك عن توافر العقول والسواعد سواء في المجالات الإدارية أو الصحية بل حتى التقنية. ما ينقصنا فقط العزيمة الصادقة ومتى ما توافرت فلن نكون أقل شأنا من غيرنا بحول الله وقوته. فالناظر إلى الوضع الصحي الحالي بعامة يشعر بالأسى والحزن، فالأسى أن هناك طفرات مضت ولا تزال بينما وضعنا الخدمي لا يزال على سابق عهده، بينما الحُزن وهو الشعور القوي الذي ينتابنا ونحن ننظر للمستقبل ولم نعمل ما يلزم لهذه المرحلة القريبة!! إن ما يحدث في واقع الأمر، هو قصور واضح لتصورات مستقبلية من الممكن وضعها على الطاولة ومناقشتها بكل جرأة وأريحية، فالمال مبذول ولله الحمد من قبل الدولة - رعاها الله وحفظها - والإمكانات البشرية والمهارات الإدارية والفكرية المتخصصة موجودة ولله الحمد. إذاً مشكلتنا الحقيقية تتمثل في عدم الجرأة على وضع الإصبع على موطن الألم ومن ثم عِلاجه، أو على الأقل التخفيف من حدة نزفه.
من المسائل المهمة في هذا الشأن، أن نظام الأسعار يعمل إذا طُبق التطبيق الصحيح على إزالة التشوهات والاختلالات الحاصلة نتيجة لعدم التقيد بالأنظمة التي تُسبب الهدر الاقتصادي والمالي. وبهذا المفهوم، فإن نظام الأسعار يعمل كوسيلة فاعلة للدولة لتحصيل جزء من إيراداتها على شكل ضرائب أو رسوم، وهذه تعمل بحيث يتم تحويل جزء من الناتج الاجتماعي إلى دخل حكومي. وفي هذا المقام نذكر أنها تعمل كذلك على تقييد الأفراد بالدخول التي يحصلون عليها وذلك لعلمهم أن جزءا منها سيذهب للدولة مقابل خدمات تقدمها لهم، ومن هذا المُنطلق سيعملون مستقبلاً على تحديد دخولهم وترشيد التصرف في إنفاقها. فالإنفاق العام سواء كان على شكل استثمارات أو إنفاق على مشروعات القطاع العام من تعليم وصحة وخلافه يستلزم وجود أسعار تعكس القيمة الاجتماعية لهذه الموارد، كون هذه الاستثمارات أو النفقات قد تُوجه إلى نشاطات إنتاجية وخدمية أخرى ذات مردود اقتصادي واجتماعي عال. وليس شيئاً جديداً أن نقول إن عدم وجود نظام للأسعار أو إن لم تعكس الموارد التكلفة الاجتماعية - ولو جزئياً - فإن هذا سيؤدي بطبيعة الحال إلى اتخاذ قرارات فيها من التبذير وهدر المال العام الشيء الكثير، وكان الأولى إنفاقها على مشاريع ذات صبغة إنتاجية وذات عوائد اجتماعية عالية. هذا الأمر يضعنا أمام عمل تخطيطي مُنظم سريع وبدون تأخير أو تسويف نستطيع من خلاله العمل على أن تعكس الوحدات المُنتجة أو الخدمية قيمة نقدية تتم المقارنة من خلالها. وأخيراً، فإن استخدام الأسعار سيدفع إلى تحفيز الوحدات الإنتاجية أو الخدمية إلى تحسين المُنتج أو الخدمة المُقدمة ورفع درجة جودتها، ما يدفع مقدم الخدمة أو السلعة إلى العمل على الارتقاء بجودتها ونوعيتها وسلامتها. لقد باشرت خطط التنمية الطموحة للمملكة منذ بداياتها على الاهتمام بالقطاع الصحي ورعايته والعمل على تشجيع القطاع الخاص ليأخذ دوره في تقديم هذه الخدمة ويرفع العبء ولو جزئياً عن كاهل الدولة، ومن مُطالعة الإحصاءات الرسمية نجد أن الإنفاق الاستهلاكي الحكومي على القطاع الصحي قد شهد ارتفاعا غير مسبوق، حيث زاد من سبعة مليارات ريال تقريباً عام 1405هـ ليصل إلى نحو 32 مليار ريال عام 1425هـ بحسب الأسعار الجارية. بينما زاد عدد الأسِرة من 7.165 ألف سرير عام 1390هـ ليصل إلى أعلى بقليل من 30 ألف سرير عام 1425هـ، كما وارتفع عدد الأطباء من 789 طبيبا إلى 18.621 ألف طبيب لذات الفترة.
من جهة ثانية، كان المتوسط السنوي لنمو المراكز الصحية بحدود 3.7 في المائة للفترة 1390 - 1425هـ، بينما المتوسط السنوي لنمو الأسِرة بحدود 4.2 في المائة والأطباء بحدود 9.5 في المائة لذات الفترة. أما مجموع المستشفيات فقد بلغ 363 مستشفى عام 1425هـ، حيث شكلت مستشفيات وزارة الصحة 212 مستشفى من المجموع الكلي، أي ما نسبته 59 في المائة من العدد الكلي ونحو 46 في المائة من مجموع الأطباء. الأرقام السابقة تُشير إلى حجم إسهام الوزارة في تقديم الرعاية الصحية للمواطنين وهذا معناه حصولها على نسبة لا بأس بها من الإنفاق الحكومي يتحتم علينا إعادة النظر في كيفية إنفاقها وحتى كيفية تنمية مواردها بعيدا عن الدعم الحكومي، وهذا بالتأكيد يتطلب تضافر الجهود الحكومية من أجل تحقيق ذلك. هناك مدى واسع من عدم المساواة الاقتصادية بين الإنفاق الحكومي على القطاع الصحي بعامة وبين نوعية وجودة المنتج المقدم للمواطنين. رسم خريطة طريق لكيفية تقديم الخدمات الصحية والمحافظة على جودتها من الأهمية بمكان في وقتنا الحاضر، وذلك من خلال تفعيل قوى السوق من أجل تحسين نوعية وجودة الخدمات الصحية المُقدمة بصورة غير قابلة للتأجيل. وقف الهدر الاقتصادي المالي سيترتب عليه وفورات مالية من الممكن توجيهها إلى قطاعات أخرى فيها إنتاج وتوظيف وهي في أمس الحاجة إلى هذه الموارد.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي