الصناعة كخيار استراتيجي لتنويع القاعدة الاقتصادية .. هل نقترب من تحويل الحلم إلى واقع؟

نظمت وزارة التجارة والصناعة خلال الفترة 1- 4 تشرين الثاني (نوفمبر) الجاري ورشة عمل لعرض ملامح الاستراتيجية الوطنية الصناعية التي جاءت ضمن ثمانية محاور أساسية وتهدف لتنمية المردود الاقتصادي والاجتماعي للقطاع الصناعي في المملكة. وحرصت الوزارة على إشراك المختصين في مراحل الإعداد كافة من خلال سلسلة ورش عمل بدأتها في حزيران (يونيو) الماضي، وهو أمر يسجل لمعالي الوزير ووكيله لشؤون الصناعة والمشرفين على برنامج الاستراتيجية الوطنية للصناعة، الذين بذلوا جهدا يستحق الإشادة به في الإشراف على المكاتب الاستشارية العالمية التي تم التعاقد معها لصياغة مشروع الاستراتيجية وخططها التنفيذية.
ولعله من المفيد الإشارة بداية إلى أن مشروع الاستراتيجية الصناعية الوطنية ليس وليد اليوم بل هو مشروع بدأ العمل على بلورته منذ سنوات وتحديدا إبان فترة الوزير السابق للصناعة معالي الدكتور هاشم يماني وتم إقراره من قبل مجلس الوزراء مطلع العام الحالي. وحددت الاستراتيجية الأهداف التالية لتحقيقها بحلول عام 2020 م:
1. رفع مساهمة القطاع الصناعي في الناتج الإجمالي المحلي من 11 إلى 20 في المائة.
2. مضاعفة القاعدة الصناعية من خلال القيمة المضافة ثلاث مرات.
3. رفع المحتوى التقني في المنتجات الصناعية إلى 60 في المائة.
4. رفع نسبة الصادرات الصناعية إلى نحو 35 في المائة من إجمالي الصادرات السعودية.
5. مضاعفة عدد المواطنين العاملين في القطاع بنحو 4 إلى 5 معدلاته الحالية.
وحتى إن كان بعض هذه الأهداف يتسم بشيء من الغموض فإنها تمثل طموحات وطنية كبيرة أضحت حلما يراودنا منذ عدة عقود تحولت خلالها إلى مفردات نزين بها تقاريرنا الاقتصادية وخططنا التنموية الخمسية دون الاقتراب من تحويل ذلك الحلم إلى واقع ملموس. ومع أن بلورة الاستراتيجية تمثل خطوة تعكس جدية المساعي في هذا الاتجاه إلا أنها بمثابة الخطوة الأولى في رحلة الألف ميل. وحتى لا تتعثر المسيرة نحتاج إلى تحديد الأدوار والمسؤوليات التي تقع على عاتق الأطراف ذات العلاقة ومعايير الأداء العامة وفقا لمراحل زمنية محددة فهذا الحلم الطموح يتطلب قبل كل شيء دعم وتضافر جهود القطاعين العام والخاص. ويبقى المحك الحقيقي والتحدي الأكبر في مرحلة التطبيق لكن الثقة كبيرة في قدرتنا على الفعل. وما يعزز من جرعة الثقة لدينا هو حجم الإنجازات التي تحققت في الجبيل وينبع فهي خير برهان على واقعية القناعة التي لم تأت من فراغ. وهذه المقالة مخصصة لاستشراف التحديات التي ستواجه هذا المشروع الوطني الطموح وهي تحديات كبيرة لأن المدى الزمني لتنفيذها قصير نسبيا (عشر سنوات)، لا تكفي مقالة لاستعراضها، ولذا سيتم التركيز على أبرزها والمتمثلة بمثلث أضلاعه الثلاثة: البنية التحتية، والموارد البشرية، ودور القطاع الخاص.
لماذا الاستراتيجية الصناعية؟
بداية قد يكون من المناسب التطرق إلى تساؤل يتبادر إلى أذهان كثير منا ويبرز تحديدا في ظل تبني المملكة اقتصاديات السوق: هل نحتاج فعلا إلى استراتيجية لتنمية القطاع الصناعي تبلورها الدولة؟ وهذا السؤال يكتسب أهميته من كون المملكة نجحت خلال الفترة الماضية في تطوير صناعات ذات قدرات تنافسية عالية عالميا دون وجود استراتيجية مماثلة. وهذا ما تجسد تحديدا في صناعة البتروكيماويات في المملكة، التي لم تنشأ نتيجة لوجود طلب محلي أو بسبب تطوير تقنيات محليا كما هو الحال مثلا في صناعة البتروكيماويات العالمية. بل وحتى ما اصطلح على تسميته «الثورة الصناعية» التي كانت بريطانيا مهدا لها في عام 1880 م لم تنطلق شرارتها نتيجة لاستراتيجية تبنتها بريطانيا والدول الأوروبية في حينها لمكننة الصناعات الحرفية مثلا بل بدأت نتيجة للتسارع المنقطع النظير للتقدم التقني الذي قاد إلى تحول جذري في أنماط الإنتاج والاستهلاك وهو ما أدى بدوره إلى ظهور وتطور صناعات جديدة لم يكن لها من قبل وجود في تاريخ البشرية.
وعلى الرغم من هذه المعطيات فإن بلورة استراتيجية لتنمية القطاع الصناعي في المملكة مقرونة بآليات التطبيق المناسبة تعد أمرا مطلوبا يكتسب أهميته من كونها تؤدي إلى تحديد الأولويات وتكامل أدوار جميع الشركاء في عملية التنمية الصناعية بما يؤدي إلى الاستخدام الكفء للموارد الطبيعية والبشرية. وإضافة إلى قيامها بتحديد الأولويات فالاستراتيجية تعمل أيضا على تحديد اتجاه الاستثمارات الحكومية في القطاعات التي تخدم تلك الأولويات مثل قطاع التعليم وقطاع النقل والخدمات اللوجستية. والحاجة إلى الاستراتيجية تكمن في أنها لا تحدد فقط ما يجب عمله بل أيضا ما لا يجب عمله. وهي بذلك لا تهدف إلى فرز رابحين وخاسرين بقدر ما تسعى إلى تهيئة المناخ العام لنجاح الصناعات الوطنية وهو الأمر الذي لا يمكن تحقيقه دون تحديد أولوياتنا خصوصا في ضوء مساعي جميع الدول من حولنا إلى تبني استراتيجيات ذات أهداف مطابقة لما نسعى لتحقيقه في المملكة وبالتالي فإن المنافسة ستكون على أشدها لجذب المستثمرين. وفي مثل هذا المناخ لا يجب فقط التركيز على تحسين بيئة العمل لجهة «سهولة أداء الأعمال» بل الأهم من ذلك هو تحسينها لجهة «كلفة أداء الأعمال».
الأمر الآخر الذي يستحق الإشارة إليه في هذا السياق هو التحولات الهيكلية في الاقتصاد العالمي وتعاظم دور قطاع الخدمات في عديد من الاقتصاديات المتقدمة على حساب القطاع الصناعي التقليدي، الأمر الذي يستدعي التركيز على الصناعات المستقبلية والقطاعات الخدمية التي تعزز قدرات الصناعات الوطنية ضمن تلك الأولويات.
البنية التحتية .. الواقع والمطلوب
استثمرت الدولة منذ الثمانينيات الميلادية مبالغ طائلة في تطوير مدن صناعية في مناطق عدة من المملكة. لكن حصل خلال العقدين الماضيين شح كبير في الموارد المخصصة للبنية التحتية لهذا القطاع الأمر الذي أسفر عن تراجع كبير في خطط توسعة وصيانة المدن الصناعية القائمة، إضافة إلى مواكبة الطلب المتنامي على الأراضي الصناعية من خلال تطوير مدن صناعية جديدة. وهذا ما تشخصه الاستراتيجية الصناعية التي تشير إلى نقص المساحات المتاحة في المدن الصناعية القائمة التي يمثل نسبة المستغل منها 95 في المائة من إجمالي المساحات مع وجود قائمة انتظار تتجاوز في بعض المدن الرئيسية ألف طلب. ووفقا للاستراتيجية الصناعية ستقوم «مدن» بإضافة نحو 140 كيلومترا مربعا من الأراضي الصناعية. وبطبيعة الحال التحدي هنا يكمن في تطوير هذه المدن وتزويدها باحتياجاتها من الخدمات وخصوصا الكهرباء والمياه، التي تتطلب استثمارات ضخمة تقدرها «مدن» بنحو 30 مليار ريال خلال السنوات الخمس المقبلة. وعلى الرغم من أن الاستراتيجية تطرقت إلى التنمية المتوازنة لمناطق المملكة كأحد مرتكزاتها، لا بد من الإشارة إلى أن أحد أبرز أسباب تعثر تجربتنا في هذا المجال في الفترة الماضية المركزية التي تتضمن أسلوب التخطيط من أعلى إلى أسفل دون مساهمة من الإدارات على مستوى المناطق فيما يخصها من مشاريع البنية التحتية. وما يستدعي التأكيد عليه هو أن مهمة وضع السياسات الاقتصادية عموما والصناعية تحديدا عمل يحتاج إلى قدر كبير من «اللامركزية» بين المركز والأطراف. كذلك تبرز أهمية تشجيع المناطق لبلورة استراتيجيات للتنمية الاقتصادية فيها ترتكز على ما لها من مزايا وخصوصيات تميزها عن غيرها من المناطق بحيث يتم تشجيع تجمعات صناعية ذات صلة بموارد المنطقة أو مزاياها التنافسية. وهذا ما يعطي المناطق مسئوليات أكبر في تطوير قدراتها التنافسية ومعالجة مشكلاتها بدلا من انتظار حلول قد تأتي أو تتأخر كثيرا من قبل المركز. وتجارب كثير من الدول الصناعية تبرز بوضوح أن «اللامركزية» هي إحدى أهم المزايا النسبية المخفية. وهذا نهج ثبت نجاحه في عديد من الدول فصرنا اليوم نرى أقاليم من دول من أوروبا وأمريكا وآسيا تجوب العالم للترويج للاستثمار فيها وعرض ما لديها من فرص استثمارية وبيان ما تقدمه من حوافز ضريبية وتمويلية للمستثمرين.
الموارد البشرية .. نقطة الضعف الأبرز
مساعي المملكة لتنويع القاعدة الاقتصادية من خلال رفع مساهمة القطاع الصناعي في الاقتصاد الوطني تبين أن رفع إنتاجية العمالة الوطنية مرتكز أساسي لتحقيق الأهداف التي حددتها الاستراتيجية الصناعية. وعملية التطوير هذه تستدعي مقارنة دورية لأداء القطاع الصناعي في المملكة بمثيله في الدول الصناعية والناهضة وهذا بدوره يستدعي العمل على إنشاء مركز متخصص لقياس التنافسية الصناعية Industrial Competitiveness Center يعمل على إجراء بحوث ودراسات ميدانية ويصدر مؤشرات عن أداء القطاع الصناعي .. وواقع الحال لا يسر لجهة توافر تلك المؤشرات والبيانات وإن توافرت فهي تشير إلى خلل كبير في هيكل سوق العمل وإنتاجية العمالة. وهذا ما يوضحه جدول (1) الذي يعرض بيانات مقارنة لمعدلات النمو في الناتج الإجمالي المحلي وعدد العمالة الداخلة إلى سوق العمل والإنتاجية في المملكة وفي عدد من دول العالم الصناعية والناهضة خلال حقبتين زمنيتين، الأولى محصورة بين عامي 1990 – 2000 والأخرى بين عامي 2000 - 2007. والقراءة المتمعنة لبيانات هذا الجدول توضح ما يلي:
1. خلال الفترة من 1990 - 2000 بلغ معدل النمو في الناتج الإجمالي المحلي في المملكة 2.7 في المائة وهو الأقل بين الدول الثلاث (الولايات المتحدة، والهند، والصين) لكن في المقابل كان النمو في عدد العمالة في المملكة الأعلى بين تلك الدول وبنسبة بلغت 2.8 في المائة يقابلها معدل نمو تراوح بين 1.1 و1.8 في المائة في الدول الثلاث. ويبدو الخلل واضحا أكثر عند مقارنة النمو في معدلات الإنتاجية حيث راوحت في معدلها الأدنى عند 1.5 في المائة في الولايات المتحدة والأعلى 5.7 في للصين. أما في المملكة فكان النمو في معدل الإنتاجية سالبا وبلغ 0.1 في المائة.
2. خلال الحقبة الزمنية الممتدة من 2000 إلى 2007 حصلت قفزات ضخمة في نسب النمو في الناتج الإجمالي المحلي لكل من الهند والصين، التي كانت على التوالي 7.5 في المائة و 11.6 في المائة وواكبتها قفزات في معدلات نمو الإنتاجية التي كانت على التوالي 4.9 في المائة و10.5 في المائة. في المقابل ارتفع معدل نمو الناتج الإجمالي المحلي للمملكة عن مستوياته في الفترة السابقة وبلغ 3.9 في المائة لكن واكب هذا النمو نسبة نمو للعمالة تعد الأعلى قياسا بالدول الثلاث الأخرى وبنسبة نمو بلغت 3.1 في المائة فيما حصل نمو متواضع جدا في الإنتاجية بلغ 0.8 في المائة.
وتدني معدلات الإنتاجية لدى العمالة في المملكة تعكسه معدلات تشغيل غير كفؤة على الرغم من تزايد معدلات الاستثمار في التقنيات المتقدمة. ولعل هذا يؤشر إلى كون الأغلبية من العمالة في المملكة عمالة غير ماهرة تتلقى تدريبها في الغالب في مواقع الإنتاج. وهذا في تقديري يمثل التحدي الأكبر الذي يواجه القطاع الصناعي في المملكة والمرتبط برفع معدلات الإنتاجية، التي ترتبط بدورها ارتباطا مباشرا بالمهارات المتوافرة في سوق العمل (عمالة وطنية ووافدة على حد سواء).
ومع توجهات عدد من دول المنطقة لتحرير أسواق العمل وإدخال مرونة أكبر إلى قوانين العمل التي تنظم حركة العمالة في المنطقة، ستصبح المنافسة مستقبلا على استقطاب العمالة الماهرة على أشدها.. ويبقى التحدي الأكبر للقطاع الصناعي في المملكة متمثلا في عدم القدرة على استقطاب أعداد كافية من العمالة الماهرة من الخارج أو تطوير مهارات العمالة الوطنية التي تحتاج إلى وقت واستثمارات كبيرة. ومن المهم في ظل هذه البيئة التنافسية تأكيد التزامنا ودعمنا للمنافسة وتبني اقتصاديات السوق، وهذا كفيل بإحداث تجدد متواصل للصناعة ورفع الإنتاجية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي