إِشكَالية غِياب البُعد الاستراتيجي الاقتصادي في التخطيط التنموي!!
ابتداءً لابد من الإقرار بأن الإنسان يسعى بطبعه الذي فطره الله عليه إلى أن يُحقق أقصى درجة من درجات التطور والتحول الاجتماعي وبما يتناسب مع إمكاناته المُتاحة. فهو يحرث ويفلح الأرض، يُدير الآلة ويضع المادة الخام، ويسعى إلى ابتكار طُرق وفنون إنتاجية جديدة، كُل ذلك من أجل إيجاد وسائل تهدف إلى تحقيق الرفاهية له ولبني جلدته، فهو لا يَكل ولا يَمَل وهذه الطبيعة التي خلقه الله عليها هدفها عمارة الكون كي يحصل التقدم الذي يأمرنا الله تعالى بالسعي إلى بنائه وتحقيقه. ويُعد الوصول إلى مُعدل متسارع من النمو الاقتصادي المصحوب بالتوظيف الصحيح والأمثل للموارد الاقتصادية المُتاحة واحداً من أهم الأهداف التنموية لأي أمة من الأمم، وهذا المُعدل يرتبط بشكل دقيق ووثيق بمعدل تكوين رأس المال بشقيه المادي والبشري.
وضمن هذا السياق، لايخفى على المتابع للمجريات الاقتصادية للدول النامية أن الدول النفطية قد حباها الله الموارد المالية الكافية لتكوين رأس المال الثابت خاصةً ما يلزم منها لتجهيز المشاريع التنموية التي تخدم القطاع الإنتاجي، وهي مشاريع البنية الأساسية وما يتعلق بها من صناعات تعتمد على وفرة أو نسبية الموارد الاقتصادية الإنتاجية.
ومن المعلوم، أن الإصلاحات الهيكلية والإدارية قد انعكست على أداء الاقتصاد الوطني عامة، فعلى سبيل المثال ارتفع نمو القطاع غير النفطي بالأسعار الثابتة من 6,5 في المائة عام 2004 إلى 6,6 في المائة عام 2005، بينما تزايدت صادرات القطاعات غير النفطية بمعدل 7,21 في المائة عام 2005 وكذلك التكوين الرأسمالي من 4,6 إلى 8,8 في المائه لذات الفترة.
وضمن الواقع الراهن، فقد أشارت إصدارات وزارة التخطيط إلى النجاح الباهر الذي حققته خُطط التنمية في إحداث تغييرات أساسية في الهياكل الرئيسية للاقتصاد الوطني وأدت إلى تنويع القاعدة الإنتاجية حيث كان للقطاعات غير النفطية إسهامات بارزة في تكوين الناتج المحلي الإجمالي، وكذلك ارتفاع دور القطاع الخاص في الإنتاج، الاستثمار، والتوظيف حيث كان له دور إيجابي في تخفيض الاعتماد على الإنفاق الحكومي. ففي مسيرة الـ 39 عاماً المنصرمة، وللإنصاف نجحت خُطط التنمية في زيادة إجمالي الإيرادات الحكومية غير النفطية من 10 في المائة عام 1970 إلى نحو 5,11 في المائة عام 2005!! والسؤال المهم في هذا السياق ماهي الاستراتيجية الاقتصادية المُستقبلية التي بُني عليها تنويع القاعدة الإنتاجية؟ ومن ثم هل التوجه نحو الصناعات التحويلية والخفيفة بالإضافة إلى الصناعات الرئيسية القائمة للمشتقات النفطية هو الهدف الرئيس؟ وما هو سلم الأولويات الصناعي؟
بدائلنا التي نُخطط لإحلالها مكان النفط باعتقادي تكمن في التركيز على التصنيع ليس إلا، كون القطاع الزراعي وبشكل مؤكد لن يدخل حلبة المنافسة. أم أن الأولى والأجدر بنا من الأساس وما زال التوجه الكلي نحو الصناعات ذات الميزة النسبية لنا فقط؟ ومن ثم التوجه نحو استيراد مانحتاج إليه من سلع وخدمات من الأسواق العالمية، وتوفير الفوائض المالية للقطاعات الأساسية كالبنية التحتية من تعليم وصحة!. يبدو للمتأمل البون الشاسع بين الاستراتيجية ذات الأبعاد الاقتصادية والتي تحمل في طياتها البرامج المرسومة بعناية ودقة للوصول إلى الأهداف العُليا من خلال صناعة قائمة ذات مزايا نسبية ندخل بها الأسواق العالمية وبين الاستراتيجيات التي تهدف إلى تحقيق تنويع للقاعدة الإنتاجية عن طريق تحويل الموارد المالية من قطاعات إنتاجية إلى أُخرى ذات صبغة تحويلية وخدمية بقصد تحقيق تنويع القاعدة الإنتاجية ولو اسمياً، المهم الإنفاق. هذه السياسات تحمل في طياتها هدرا للفُرص المالية والاقتصادية بكل المعاني، ولا أدل من ذلك على سياسات القطاع الزراعي التي اعتمدت على تحويل الموارد المالية لقطاع منتج لاتتوافر له أي مزية نسبية بالمقارنة مع غيره من البلدان ذات الموارد الزراعية. ومن خلال النظر في نظريات التجارة الدولية وقيامها عامة، ومنها النظرية الحديثة ( هكشر- اولين)، نجد أن قيام التجارة الدولية والتخصص يرجع في أساسه إلى عاملين رئيسيين هما وفرة عناصر الإنتاج داخل الدولة، وتناقص التكاليف بزيادة الإنتاج نتيجة للتوسع في المشاريع الإنتاجية ولهذا فالتركيز على أن تتخصص الدولة في إنتاج سلعة «ما» متى ماتوافرت فيها عناصر الإنتاج، يترتب عليه إنتاج السلعة بتكلفة أقل نسبياً من غيرها وبالتالي تصدير الفائض عن حاجتها أو أن تتخصص في التصدير وتستورد ماتحتاج إليه للسوق المحلية من الخارج.
وحتى نقف بشكل واضح عند الدور الذي تُمثله هذه النظريات مع واقعنا الحالي نجد أن سياساتنا التخطيطية لم تُعط أهمية بالغة لدور التجارة الخارجية في التنمية، خاصة أننا بلد نفطي يعتمد على مصدر ناضب ومن ثم لابد من تعظيم المكاسب المتحققة من دخول النفط وتوظيفها بما يُحقق تنويع القاعدة الإنتاجية. واقع الحال يقول إن هناك مجموعة من الاستراتيجيات قصيرة ومتوسطة المدى قد تتلاقح أحياناً وتتعارض في غالب الأحايين وعلى هذا فإن وضع الأولويات الصناعية ضمن الأجندة الرئيسية واجب وطني ليتم التفاعل والتعامل معها بكل أمانة وجدية. مهما يكن، فإن التصورات يجب أن تنصب على القطاع الصناعي وحده ليس إلا، وحتى في هذا القطاع يجب إن نكون على قدر من الدراية بالموارد المتاحة التي تكفل استمرار هذا القطاع في النمو ودون الحاجة إلى الموارد المالية الحكومية وذلك من خلال التركيز على توجيه الموارد له. هذا القطاع يشمل الصناعات النفطية والبتروكيماوية، مع وقف هدر الفُرص المالية باتجاه الصناعات الغذائية والتي نفتقد المزايا النسبية فيها وبكل المقاييس. إن هذه دلائل واضحة وتُشير إلى أن السياسة التنموية التي يمكن الركون إليها هي التي تستجيب لمقومات التنمية وتأخذ في الحسبان العلاقات الاقتصادية الدولية المُتبادلة مع الاهتمام بالظرف المحلي الاجتماعي والاقتصادي. وعلى هذا فإن إعادة رسم الخطوط العريضة للسياسات التصنيعية وتحكيم المعرفة العلمية الاقتصادية أمر ضروري وبما يحقق أهداف التنمية ويفي بتطلعات ولاة الأمر حفظهم الله.