فقه افعل ولا حرج بين التشديد والاستخفاف
دين محمد - صلى الله عليه وسلم - دين بسيط فهمه، متكاملة قواعده، متوافقة تكاليفه ومتناسقة، يستحيل على بشر تقليده أو الإتيان بمثله. ولا عجب، فالمرتضي له رب العالمين والمُرتضى لهم هم عامة الناس وكذا بحمده تتم الصالحات. دين محمد - صلى الله عليه وسلم - حمل أمانة نشره قلة أمية هم صحب نبي أمي، الذين, وإن كانوا هم أفضل الخلائق كافة بعد الأنبياء والرسل, إلا أنهم بشر من عامة الناس. ففيهم الفقيه والعابد والمُعلم والمتعلم والسياسي والصالح والقائد والجندي والتاجر والأجير والغني والفقير. لم يصعُب دين محمد - صلى الله عليه وسلم - على الصحب الكرام البررة وعلى تابعيهم حتى استخدم من جاء بعدهم الدين لإغراضهم الخاصة في السياسة والتجارة. فانبرى العلماء للفكر الدخيل يحاجونه بالحجة النقلية والعقلية تارة وبالسياسة والحكمة تارة أخرى. وبين الراد والمردود عليه قوم يسمعونها زيدا فيفهمونها بكرا ويحفظونها عمرا ويكتبونها أمرا فينتجون بذلك مسخا، فتبارك الله أحسن الخالقين.
قال عليه السلام صلوا كما رأيتموني أصلي، وصلى عليه السلام قائما وجالسا وعلى دابته. وقال تعالى'' فاذكروا الله قياما وقعودا وعلى جنوبكم فإن اطمأننتم فأقيموا الصلاة''. فالأصل في الدين الاتباع على قدر الاستطاعة فمن لم يستطع فما جعل الله علينا في الدين من حرج. وقال تعالى ''ما أتاكم الرسول فخذوه وما نهاكم عنه فانتهوا'' وقد قال عليه الصلاة والسلام في حجة الوداع ''خذوا عني مناسككم'' وما أتاه أحد من الحجيج وقد قدم أو أخر أو فعل كذا أو كذا إلا قال عليه السلام افعل ولا حرج. ومات عليه السلام وقد تركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها، كتاب الله وسنته. ومن هنا لم يكن قول الصحابي حجة عند جمهور العلماء إذا كان تفقها أو اجتهادا منه - رضي الله عنهم أجمعين - فكيف بقول من جاء بعدهم؟!
الحج من أكثر أبواب الفقه اختلافا، ليس بين أتباع المذاهب فقط، بل حتى بين الصحابة والتابعين. وما ذاك إلا لأن كلا منهم يروي ويعمل بما ثبت عنده. فقد كان عليه السلام يؤسس الأصل فينادي في الناس ''خذوا عني مناسككم فلعلي لا أحج بعد عامي هذا'' ويستثني الجاهل والعاجز ومن عليه حرج حين يأتيه المسلمون فرادى وجماعات يسألونه عليه السلام في أمور لم يتبعوه فيها فيقول افعل ولا حرج، افعل ولا حرج. ونهى الفاروق عمر - أمير المؤمنين - الناس من التمتع بالعمرة إلى الحج سياسة لكي لا يُهجر البيت. وفي منى أم ذو النورين عثمان الحجيج متما أربعا اجتهادا منه - رضي الله عنه - لزواجه في مكة، حيث عد نفسه من أهلها فأطرد قاعدة الإتمام في الحضر. وتفقه الحبر عبد الله بن عباس فقاس ترك الواجب وفعل المحظور على الإحصار وأذى الرأس فقال ''من ترك نسكا فليجبره بدم''.
ومرت القرون الثلاثة المفضلة وأقفل باب الاجتهاد، اجتهادا. وأصبحت علوم الدين أهم صنعة مع عز الإسلام وعلو نجمه. فاختُصرت المطولات وشُرحت المختصرات في عجن وطحن وخلط ونشر وجمع وتفريق. وأصبح أتباع المذاهب حتى يومنا هذا يفتون الناس بما قرأوه في كتب الفروع. فتوسع هذا وضيق ذاك وابتدع مبتدع وتشدد مريد في اتباع شيخه. ولو تأمل أحدنا في أقوال الناس وأفعالهم في الحج اليوم - غاليهم وجافيهم - لوجدها تدور بين التشدد في خذوا عني مناسككم وبين التوسع في افعل ولا حرج، أي بين الأصل والاستثناء. ولو وسعنا نطاق التفكر والنظر لتشمل تطبيقات المسلمين العقائدية والتعبدية والتعاملية لوجدنها كلها تدور بين تشدد في الأصل وتوسع في الاستثناء.
واليوم يوم التروية، والحجاج في منى يتجهزون روحيا وعمليا لبدء مناسك الحج. فما أشبه يوم التروية بركعتين نافلة قبل صلاة الفريضة, والحج عرفة. فتوسع أناس في افعل ولا حرج فوقف ساعة بعرفة ليلا (ليلة العيد) ثم قصر شعره ورُميت عنه جمرة العقبة بالنيابة ثم طاف بالبيت وسعى فأحل التحلل الكامل وعاد متوجها إلى بلده وقد قضى تفثه وأكمل حجه. وقد يداخل البعض بعض من التقوى فيخرج إلى جدة أو حتى إلى الطائف - وهي خارج الميقات - فيقضي بها أيام العيد حتى إذا جاء يوم الرابع رجع إلى منى قبل الغروب ورمى الجمرات الثلاث ثلاث مرات مرتبة ومتعاقبة والحمد الله رب العالمين. فإن كان ذلك لحرج أو حاجة شديدة فقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - افعل ولا حرج، ولا شيء عليه. وأما إن كان من باب التوسع فما هذا إلا لعب واستهزاء بشعائر الله وقد قال تعالى ''ومن يعظم شعائر الله فإنها من تقوى القلوب'' ومفهوم المخالفة أن عدم تعظيمها هو من عدم التقوى.
ومن الاستخفاف بشعائر الله ترك الواجبات في الحج وفعل محظورات الإحرام من غير عذر ولا جهل ولا حاجة. فكيف عالج الفقهاء هذه المسألة. عمل الفقهاء طوال قرون، سياسة أو تقليدا، على ضبط الناس لمنعهم من الاستخفاف بشعائر الله عن طريق العقاب الدنيوي بإلزام المخالف بدم فدية يذبحه في الحرم ولا يأكل منه. والفدي وإن كان تعبدا ولكن عقاب دنيوي ملموس. والدليل قد نص على الفدي في الإحصار وفي حلق الشعر عند وجود أذى وما عدا ذلك فقد أثبتت السنة النبوية في مواضع كثيرة خلاف قول بن عباس المشهور ''من ترك نسكا فليجبره بدم''. ومما سمعته من شيخنا ابن عثيمين - رحمه الله ورضي عنه وأرضاه - قوله: ''إن قول ابن عباس ''من ترك نسكا فليجبره بدم'' هو تفقه من عند ابن عباس والأصل أن الفدية لا تلزم إلا في الإحصار وحلق الشعر ولكن لا نفتي الناس بذلك من باب السياسة، فلا يخوف الناس ويردعهم عن التهاون في الحج إلا إلزامهم بالفدية). ومما سمعته من الشيخ الألباني - رحمه الله - قوله: ''إن سياسة مقايضة واجبات الحج وفعل محظورات الإحرام بالجمال والبقر والغنم هي سياسة تؤدي إلى أن يستخف الناس بشعائر الله''. بل أن الأصل هو خذوا عني مناسككم فمن لم يستطع لحرج أو جهل أو حاجة فالفتوى هي افعل ولا حرج. ومن فعل محظورا أو ترك نسكا تهاونا فأمره إلى الله إن شاء عاقبه وإن شاء عفا عنه. والحجاج كالمصلين درجات، يتفاوتون في الأجر والفضل كالتفاوت بين السماء والأرض.
قاعدة اتقوا الله ما استطعتم هي قاعدة شاملة جامعة لجميع أحكام الدين، وهي قاعدة وسط بين الإفراط والتفريط. والاستطاعة تختلف باختلاف الناس. فمن الناس من يسهل عليه صيام الدهر ومنهم من يشق عليه صيام رمضان. ومن الناس من يسهل عليه الاعتكاف والجهاد ويشق عليه طلب العلم أو حفظ القرآن ومنهم من هو عكس ذلك. فالشيخ أو المفتي لا يستطيع تقييم الاستطاعة والحرج عند إنسان وآخر، ومن ادعى ذلك فهو يرفع شيخه إلى مقام أعلى من مقام البشر. إذن ليست السياسة هي الأصل في الفتوى في أمور الدين عموما، بل الأصل هو الالتزام الكامل بالنص الصريح من كتاب أو سنة فمن وجد حرجا فلا إثم عليه ''ما جعل عليكم في الدين من حرج''. ولكل ذلك ضوابط صريحة. فالأصل في الصلاة هو ''صلوا كما رأيتموني أصلي''. والأصل في الحج هو ''خذوا عني مناسككم''. وعند الحرج أو عدم الاستطاعة التي يقدرها المسلم لنفسه - لا بواسطة شيخه - فلا أقل من الوقوف لحظة بعرفة لتحقيق الحج ولا أقل من النية في أداء الصلاة. وهكذا لو تأملنا في جميع التكاليف الشرعية من مأمورات أو منهيات لوجدنا اطراد هذه القاعدة - قاعدة فاتقوا الله ما استطعتم -. وزبدة الكلام: ما أخرج فقه ''افعل ولا حرج'' إلا فقه سياسات التشديد في فرض ''خذوا عني مناسككم'' وهذا في أمور الدين كلها، والله أعلم.