ليشهدوا منافع لهم
بياض يملأ ساحات مكة وشعابها، أمم جاءت من فجاج الأرض ملبين نداء الخليل حين أذن في الناس بالحج، فجاءوا رجالاً وركبانا، تركوا الحياة بمباهجها خلف ظهورهم وأقبلوا إلى الله بقلوبهم وعقولهم، عرفوا مواقع النعم ومنابع الخير فأسرعوا الخطى علهم يحظون بشيء منها.
الملايين تطوف حول البيت، أول بيت في أطهر بقعة، أول بيت وضع للناس، وقد رفع الخليل منه القواعد وإسماعيل داعيا ربه أن يجعل هذا البيت مثابة للناس وأمنا، وملتقى لأفئدة من الناس تتهاوى نحوه ليكونوا أنسا لمن تركهم عند البيت ، زوجته وصغيره، كذلك دعا ربه بأن يجعل الله منهم، أي من أصل هذه الأرض الطيبة الطاهرة رسولاً بآياته وكتابه وحكمته، دعوات كريمات تحققت مع كر السنين، فهاهم حجيج بيت الله الحرام يتهاوون عاما إثر عام، زرافات ووحدانا إلى منبت الوحي ، يبتغون منافع لهم، وقد اجتمعت في تباهي المولى عز وجل بخلقة على ملائكته الكرام البررة، وهل بعد هذا الخير خير؟ فأي مكانة ارتقت إليها هذه القلوب العامرة عندما باهى بهم المولى عز وجل ملائكته الكرام البررة؟
وحيث يسعى الساعون بين الصفا والمروة، ليس تيمنا بخطى أم إسماعيل عليهما السلام، إنما سعي إلى الله عز وجل ، فهاجر عليها السلام حين سعت مسرعة وجلة على وحيدها من جبل إلى جبل، كانت تسعى إلى الله ليجعل لها من مصيبتها مخرجاً وجاءت الإجابة حين انبجست تلك العين المباركة في القفر اليباب، ماء سائغاً للشاربين، وإلى يومنا هذا وتلك العين تسبح بحمد ربها عطاء غير مجذوذ، إنها حقا منافع عظيمة تلك التي ينعم بها الحجيج وهم يحتسون حسوات من تلك النعمة المسداة متيقنين بأن زمزم لما شرب له.
إنها صور حية للارتقاء البشري وتخلصه من أدران الدنيا واكتفائه بتلك القطع البسيطة اليسيرة على جسده فالدنيا مهما عظمت فهي لا تساوى عند الله جناح بعوضة، وهاهم يتركونها خلفهم ويتركون مباهجها ويقبلون إليه سبحانه في دنياهم كما سيقبلون عليه في آخرتهم. إنها بحق منافع عظيمة يستشعرها من أكرمه الله بأداء هذا الركن الركين.
إن ملحمة الحج ، صفحة مضيئة في كتاب الإيمان واليقين ، صفحة تقرأ فيها مآثر المولى عز وجل على عبادة المؤمنين ، صفحة تتجلى فيها عبقرية هذا الدين الذي جمع هذه الجموع المتغايرة المتباينة في صعيد واحد وعلى قلب رجل واحد، لا فرق بين أبيضهم وأسودهم فالكل سواسية في حضرة الرحمن، إنها ملحمة الملاحم حيث حشر الناس بفضل الله ومنه عليهم، لا ليحاسبهم على ما كسبت أيديهم بل رحمة منه بهم ليشهدوا منافع لهم ...
إنها أيام معدودات، يتمتع فيها الحاج بجو من الأنس الإلهي الوهاج، ويلتقي فيها بإخوة له في الله تفصله عنهم أبحر وصحراوات، يلتقون معا حيث جمعهم جامع الناس منة منه وفضلاَ.
إن ملحمة الحج تؤكد لكل ذي لب أن عظمة الإسلام التي تجلت في هذا الركن الركين وتفضله على سائر الأركان ببعديه الزماني والمكاني، حيث تتهاوى الأفئدة إلى بيت الله في أيام معلومات من أشهر معلومات ضيوفا على الرحمن وما أكرمه من مضيف، وما أسعدهم بهذه الضيافة .. إنها منافع لا تحصى ولا تعد يكفيهم منها أن تكتحل أعينهم بمشهد البيت الذي جعله المولى عز وجل مثابة للناس وأمنا.