منافع الحج 9.. اقتصادية وثقافية
حتى ندرك تماماً المنافع الاقتصادية للحج علينا أن ننظر في مجالين على سبيل المثال والتوضيح:
المجال الأول: منافع الهدي والأضاحي.. الذبائح في داخل الأماكن المقدَّسة وخارجها حول بلاد المسلمين.. الحاج المتمتع أو القارن يقدم هدياً، والحاج الذي يقع في بعض المحظورات يقدم فدية، والمسلمون في كافة بلاد العالم يقدمون أضحياتهم تقرباً لله تعالى.. إذن الهدي والأضاحي والصدقات: تصنع نشاطاً استثمارياً هائلاً عائده كبير للكثير من المستفيدين داخل وخارج البلاد الإسلامية.. انظر مثلاً كيف تستفيد الدول التي تورّد المواشي!!.. انظر لحجم العمل الذي يقوم به البنك الإسلامي للتنمية في الذبح ونقل اللحوم وتوزيعها في مختلف البلاد الإسلامية.. انظر لحجم عمل الجمعيات الخيرية التي تدير عمليات الهدي والأضاحي.. انظر لعدد ودخل العاملين الذين يشاركون في كافة مراحل تربية المواشي وتسمينها ورعايتها طبياً ونقلها وذبحها وحفظها وتوزيعها, وكيف تؤثر هذه الأرقام الكبيرة جداً في اقتصاديات الدول والمجتمعات.. إن الحسبة البسيطة المتحفظة لحركة المال في موسم الحج في هذا المجال فقط تتجاوز المليارات.. ولا يمكن حصرها في كافة بلاد العالم الإسلامية وغير الإسلامية.
المجال الثاني الذي تتجلى في منافع الحج الاقتصادية: الشركات التي تقدم خدمات الحج وما يرتبط به من سكن، وتنقلات جوية وبرية وبحرية، وطعام وشراب يومي، وما يرتبط بهذه الخدمات من وكلاء ووسطاء حول العالم.. ويضاف إلى ذلك حجم القوى العاملة والفرص الوظيفية والدخل المالي المترتب على كل ذلك.. وبكل شفافية فإنني لم أعثر على مصدر موثوق دقيق واحد استطاع أن يقدر هذه الأرقام بشكل علمي.. لكننا إذا أردنا أن نقرب الأمر فإن لدينا حجم استثمارات فندقية في مكة المكرمة لوحدها خلال موسم الحج بقيمة تقارب 800 مليون دولار، ولدينا حجم سوق حج تقريبي من دولة واحدة مسلمة هي دولة الكويت يقدر بقيمة 100 مليون دينار كويتي أي ما يعادل 250 مليون دولار سنوياً، وقد أوضحت دراسة لمركز للأبحاث والتطوير على اقتصاديات الحج والعمرة باعتبارها من مقومات التنمية في السعودية أن الحاج ينفق 5500 ريال على أقل تقدير، تتوزع نسب الإنفاق في 25 في المائة الإقامة والسكن، 15 في المائة في السفر والنقل الجوي..فإذا حسبنا أن لدينا مليوني حاج نظامي، فإن لدينا حجم سكن في أيام الحج فقط يصل إلى 275 مليون ريال.. وعدد من يعملون بشكل مباشر في الحج يزيد على 55 ألف موظف..
وإذا أردنا أن ندخل عوامل كثيرة في الموضوع فيجب أن نتطرق إلى تأثير موسم الحج في ارتفاع وانخفاض أسعار العملات، وأسواق السلع والتأشيرات ونقل البضائع المقلدة.. ولذا فإننا يجب أن نتخيل حجماً اقتصادياً هائلاً يمكن أن يكون سبباً في حالة من الازدهار والنمو الإيجابي للدول الإسلامية.
في الحج رواج اقتصادي للمسلمين، إذ يتسم موسم الحج بالرواج الاقتصادي لما يتطلبه السوق من سلع وخدمات لازمة لأداء مناسك الحج، حيث يستهلك الحاج في كل ساعة من ساعات الموسم، فتدور المصانع ويكثر الطلب، ويزيد العرض، فيصبح للتجارة معنى جديد في هذه المشاعر المقدَّسة.. ويتعرف رجال الأعمال على منتجات كل البلاد الإسلامية، فينقلونها من بلدة إلى أخرى، ويكون هذا سبباً في ازدهار التجارة ونشاطها, بتوفيق الله تعالى..
في الحج دعوة إلى تطبيق الاقتصاد الإسلامي الصحيح، إذ في الحج دعوة لتطهير المعاملات بين الناس من موبقات الربا والاحتكار والغش والتدليس والغرر والجهالة وأكل أموال الناس بالباطل.. والحاج عليه أن يتجنب الإسراف والتبذير والإنفاق الترفي، فالحج دعوة صادقة لتطبيق الاقتصاد الإسلامي على أعلى المستويات الفردية والجماعية.
يُعتبر الحجّ مؤتمراً إسلامياً لحل مشكلات المسلمين الاقتصادية، حيث يفد إلى الأماكن المقدسة ملايين المسلمين من شتى بقاع العالم منهم العلماء المتخصصون في مجال الاقتصاد والخبرات العالمية الإسلامية بما فيها من صناع وتجار ومهنيين، فيكون ذلك فرصة طيبة لعقد المؤتمرات والندوات والاجتماعات لمناقشة مشكلات اقتصادية مشتركة مثل الأمن الغذائي، في سبيل الوصول إلى التكامل والتنسيق ونمو العلاقات الاقتصادية بين المسلمين.
وهكذا يمكن اعتبار موسم الحج فرصة تتسع لعقد الصفقات وتبادل البضائع وتنشيط الاقتصاد على المستوى الداخلي والخارجي والعالمي، زد على ذلك أن موسم الحج يمثّل مناسبة مميزة لتمكين الحجاج الوافدين من التعريف بمنتجات بلادهم وميزاتها ومواصفاتها وأسعارها، والعمل لاحقاً على تصديرها، وقد يكون العكس أيضاً، وذلك بما يحمله الحجاج معهم من هدايا وبضائع يتحفون بها أنفسهم وأهليهم وذويهم. ومن ارتبط بالحج لاحظ كيف قامت صناعات كبيرة وعديدة على هذا الموسم المبارك.. فقد نشأت مصانع ومعامل في شتى أنحاء العالم لتقدم هدايا الحجاج مثل المسابح وبعض أنواع الملابس والأحزمة..
وقبل أن أغادر هذه النقطة نشير إلى ما كانت عليه هذه البقاع الطيبة قبل أن يأذن الله لإبراهيم عليه السلام بأن يؤذن في الناس بالحج.. جبال مقفرة وواد غير ذي زرع.. أصبحت اليوم بفضل الله الذي سخر قلوب الحجاج إليها كل عام.. أصبحت تلك البقاع أغلى بقاع العالم في قيمتها المادية.. وأثراها بالحركة البشرية والتجارية..
وكما كانت العلاقات العامة والخاصة في الحج.. مجالاً خصباً لظهور منافعه التجارية ومنافعه الاقتصادية على الأمة والعالم بأسره.. فهي أيضاً مجال خصب لظهور منافعه الثقافية والأدبية.. (فالحج محفل ثقافي عظيم).. يجب أن يستثمر في صياغة النفس وبناء الفكر وتكوين التصور الصحيح والإسهام في النهوض بمجتمعات المسلمين.. الحج إحدى ركائز الشعور بوحدة الانتماء، وأحد وسائل اتصال المسلم بمهد الإسلام ومنابعه الأصيلة، وأحد طرق صياغة معالم شخصية المجتمع الإسلامي، وأحد مصادر المحافظة على الهوية، وأحد عوامل التواصل بين الشعوب والتمازج بينها. إذا تأملنا عميقا وطويلا في تفاصيل اللوحة فسندرك أن التحدي الراهن هو ثقافي فكري بامتياز، ولا يمكن للمجتمعات أن تتغير ما لم تقلب أنماط التفكير فيها والمسألة الثقافية هي الجذر الرئيس لكل هذا.
أيام التشريق بمنى فرصة رائعة لنشر خيم الثقافة والفكر والأدب التي يمكن أن تزيل الشحوب الثقافي من وجه الحج وتقدمه للجميع بدلاً من أن يقتصر على النخب.. وإن سعي ما يَزيد على مليوني مسلم إلى الأرض الطاهرة والبقاع المقدسة يُعطي أملاً عظيمًا لعودة هذه الأمة مرةً أخرى إلى مكانتها (كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس).
وقف قال أحد الساسة المسلمين أمام الكعبة فقال: أحسست بخواطري تطوف بكل ناحية من العالم وصل إليها الإسلام، ثم وجدتني أقول في نفسي: يجب أن تتغير نظرتنا إلى الحج، يجب أن تكون للحج أيضا قوة تغيير ضخمة ويجب أن تهرع صحافة العالم إلى متابعة أنبائه لا بوصفه مراسم عبادة فحسب، وإنما بوصفه مؤتمرا دوريا يجتمع فيه كل قادة الدول الإسلامية، ورجال الرأي فيها، وعلماؤها وكتابها ورجال الصناعة والتجارة فيها وشبابها ليضعوا في هذه الندوة الإسلامية العالمية خطوطا عريضة لسياسة موحدة.. حتى يحين موعد اجتماعهم من جديد بعد عام.
هذه بعض منافع الحج التي ندعو أن تتحقق في الواقع.. وإن كان هناك حاجة إلى زيادة هذا الأثر في واقعنا العملي.. فإن هذا يقودنا إلى منفعتنا الأخيرة وهي نقطة الانطلاق الجديدة نحو طموحاتنا وآمالنا الفردية والجماعية.