زيادة الإنفاق على التعليم ومبرراته الاقتصادية والتنموية!!

في العلاقة الحميمة بين التعليم والاقتصاد يُشدد الاقتصاديون ومنهم ثيودور شولتز، على أهمية الاستثمار في الإنسان لما له من كبير الأثر في النمو الاقتصادي، وعلى أن التعليم هو الطريق الأمثل للاستثمار في رأس المال البشري وتنميته. ومع شديد الأسف بقيت الدول النامية في وضع متخلف عن الركب الأُممي ما جعلها تستجدي الدول المتقدمة في أغلب إن لم يكن كل الميادين، هذا الوضع أعطى الضوء الأخضر لقادة هذه الدول للعمل الدؤوب من أجل رفع الهيمنة وقهر ظُلم التخلف النازل بأممهم وذلك من خلال الدراسة المُتأنية لتجربة من سبقهم في المجالات العلمية والتطبيقية ووضعها في إطارها الصحيح لتتم الاستفادة منها. لقد أثمر هذا التفكير عن إعادة صياغة للتعليم ودوره التنموي مع إعادة لرسم الاستراتيجيات المُتعلقة به، مع سرعة نشره بين قطاعات المجتمع حتى يتسنى الدفع بمهارات علمية وعملية تُحرك عجلة التنمية إلى الأمام. ومن المعلوم للجميع أن دور التربية والتعليم يتمثل في إعداد الطاقات البشرية العاملة والمؤهلة وذات المهارات والخبرات من عمالة وفنيين وإخصائيين من أجل المساهمة في مشاركة علمية وعملية تكون حافزاً ومُحركاً للأمام. فإن كانت هذه من الأولويات في الدول المتقدمة فهي أكثر إلحاحاً وأهمية في البلدان النامية التي يقع على كاهلها إحداث تغييرات جذرية من أجل تحقيق النمو الاقتصادي والانتقال من وضعها الحالي إلى آخر وبشكل أفضل، وبذلك يكون هذا القطاع قد أسهم بدور تنموي رائد وهو توفير وإعداد الكوادر الوطنية ذات المواصفات العالية لتكون بديلاً عن الأيدي العاملة الأجنبية. ولعلنا في هذا المقام نُعيد التأكيد على أن هذا القطاع الحيوي يُسهم وبشكل مباشر في البحث العلمي النظري والتطبيقي وكذلك تفعيل النتائج العلمية من خلال المشاركة الفاعلة في التطوير والتجديد وتكون إحدى ثماره المشاركة على المستوى الاقتصادي من خلال الزيادة في إنتاجية العنصر البشري بعامة. ومن المهم في هذا السياق التأكيد على أن زيادة الإنتاجية لها تأثير إيجابي في الدخل سواء كان على مستوى الأفراد أو على المستوى الوطني ما ينتج عنه حصول تغيُرات اجتماعية ومعاشية مُتوقعة ومُنتظرة، ولا أدل على ذلك من أن الدراسات الاقتصادية والاجتماعية قد أشارت وبشكل لا يقبل الجدل إلى التأثير القوي والفاعل للتعليم في زيادة الناتج الوطني الإجمالي. ولعله من المُفيد أيضاً، أن للتعليم أبعادا اجتماعية مهمة وحساسة، حيث يعمل على توسيع مدارك الناشئة وتوجيهها الوجهة العلمية السليمة والطموحة ما تنتج عنه تأثيرات في الواقع الاجتماعي المُعاش، بحيث تؤدي إلى إطلاق قوى الإبداع والمواهب، كون هذه المواهب لابد من رعايتها والاهتمام بها في بداياتها من قبل جهاز تعليمي وتربوي قادر على القيام بهذه المهمة الشاقة. لا ننسى أهمية التعليم في تقريب أبناء المجتمع من بعضهم بعضا عن طريق تذويب الكثير من العادات والتقاليد وصهرهم في بوتقة واحدة وما تفرزه من أنماط سلوكية واجتماعية متشابهة تجعلهم أكثر قُرباً وأكثر تجاوباً مع المُتغيرات الديناميكية الاجتماعية والاقتصادية الحالية. وكما لا يفوتنا بأن ارتفاع المستوى التعليمي عامل مساعد للمواطنين عند تنقلهم من مكان إلى آخر ومن عمل إلى آخر، بالإضافة إلى الدور المهم الذي يقوم به التعليم في تهذيب السلوك الاجتماعي والتحرر من العادات والتقاليد التي تقف في طريق التنمية وتحريك الشعور الوطني العام تجاه المصالح الوطنية العامة، وعلى هذا فإن ارتباط التعليم بالاقتصاد لا شك أنه وثيق جداً ويسهم بشكل مؤكد في تحقيق النمو الاقتصادي. ومن أجل تجاوز عقبات التنمية الاقتصادية لابد من إيجاد حلقة وصل مابين التخطيط والتعليم وذلك من خلال ربط خُطط التنمية بالحاجات المُتعلقة بتوفير القوى العاملة الوطنية لتحقيق التنمية من خلال التوجهات إلى البحث في كيفية الربط وسبل تحقيقه، وعلى هذا فالتعليم كونه احتياجا مجتمعياً وكما أسلفنا، فهو في الوقت ذاته استثمار للمتعلم وللأمة وبذلك أصبحت هذه المسألة محور الاهتمام الاقتصادي من العديد من النواحي كحجوم الإنفاق والعوائد المتوقعة من الإنفاق والاستثمارات المادية لهذه القطاعات سواء كان الخاص منها أم الحكومي. وبالرغم من تهيؤ الظروف الحالية وبالأخص المادية منها للدولة وقدرتها على الصرف على التعليم بكافة مستوياته، حيث إن مقدار الإنفاق على التعليم والتدريب يُعتبر هو المقياس لجهود الدولة وقدراتها على النهوض بهذا القطاع، فالدولة، حفظها الله، أخذت على عاتقها النصيب الأكبر من أجل تثبيت هذا البناء التنموي، فعلى سبيل المثال ارتفع حجم الإنفاق على تنمية الموارد البشرية وركيزتها التعليم والتدريب من 9.276 مليار ريال في خطة التنمية السابعة إلى أعلى بقليل من 6.347 مليار ريال في خطة التنمية الثامنة، وفي إشارة واضحة إلى تصاعد وتيرة الإنفاق الحكومي على تنمية القطاع البشري خاصةً في المجالات التعليمية والتدريبية. إلاّ أن التفكير في الظروف المستقبلية يجب ألا يغيب عن بال راسمي الاستراتيجيات والسياسات التعليمية لدينا خاصة في مجال المصادر الدائمة للتمويل بحيث يكون لها الأولوية المُطلقة خاصة في أوقات انخفاض الدعم الحكومي، من خلال إعادة تدوير أموال بعض الرسوم الحكومية الانتقائية على بعض السلع والقطاعات المُنتجة، وتشجيع القطاع الخاص ليكون هناك تعليم تعاوني حكومي خاص حتى نضمن جودة مخرجات التعليم وبما يتناسب مع احتياجاتنا الآنية والمستقبلية في المجالات الصناعية والتكنولوجية التطبيقية والمهنية وبذلك لا نترك لقوى السوق وحدها فرصة الاستفراد بقرارات التعليم والاستحواذ عليها، خاصةً أن هذه السلعة تمتاز بالأثر المُتعدي الذي تعم فائدته المجتمع بأسره. ومن هذه الرؤى هناك ضرورة ملحة للتنسيق ما بين تخطيط التعليم ومتطلبات التنمية وحاجات سوق العمل من الأيدي العاملة الماهرة المُدربة حتى نتجاوز مشكلات البطالة التي قد تتصاعد إن واصلنا سياساتنا التعليمية الحالية والتي لا تستند إلى مبررات اقتصادية وتخطيطية كافية وذات أبعاد وطنية مستقبلية.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي