ما بعد كارثة جدة
أبدأ من حيث انتهيت في مقالتي السابقة, من كارثة جدة التي لا تزال إلى الآن ترزح تحت أثقال المأساة, الجهود التطوعية مذهلة والفريق الذي يمتد متشابك الأيدي بين الجمعيات الخيرية والمؤسسات التطوعية رجالا ونساء على امتداد الأحياء المنكوبة, التي تحتاج إلى جهود غير عادية واستراتيجية جديدة لإصلاحها, وحماية سكانها من الغوائل البشرية والفساد الإداري ومن غوائل الكوارث والإهمال والتباطؤ في النجدة.
هذه هي الحقائق التي ينبغي ألا نتجاوزها ونكرر المديح وندعي أن الوضع أفضل والجميع في وضع مستقر, نعم هم في وضع آمن ولكن بشكل مؤقت. هناك مناطق إلى الآن لم يتم توفير سكنى لهم, خصوصا أن منازلهم تضررت من هدير مياه الصرف الصحي مع السيول مثل (حي كيلو 14) وهو من أسوأ الأحياء التي تضررت بعد, (حي الصواعد) الذي اختفى تماما! تحت ركام هائل من جبال من الرمال والطين القادمة من تكسر جسر تم بناؤه هناك وتم دعمه بأطنان من التراب والأسمنت, عند انفجار جزء من بحيرة الفساد وتشكل الطوفان دمر الجسر وسحب دعاماته الترابية والأسمنتية إلى حي الصواعد ليطمره! السكان الذين تم إنقاذهم وإسكانهم في شقق مفروشة, بقي منهم من طمرتهم السيول, حتى أن أحد رجال الدفاع المدني ذكر أن فريق التطوع النسائي الذي كان هناك ربما يقفن على جثث الضحايا!
عند دخولنا إلى الأزقة في كيلو 14 كانت ممتلئة بمياه المجاري ومياه المطر, ما تبقى من غرف السكان تحولت إلى أوعية من الطين لا أثر للأثاث ولا للبشر داخلها, من خلف الباب الحديد الصدئ خرجت طفلة رقيقة ووراءها والدتها, التي احتمت بالباب لأنه المكان الآمن, فزوجها جندي ذهب للعمل, والحي في حالة استثنائية, الجميع خارج المنازل لأنها لا تصلح للبقاء, والشوارع مختفية تحت الركام والأسوار والجدران المهدمة, والحفر لا تترك لنا موقعا للمضي قدما للبحث عن الأسر التي لا بد أن نقدم لها المساعدات. منظر لا تتوقعه إلا في مدن فقيرة وبعد زلزال أو فيضانات عارمة, رغم هذا نجد أن التعاضد بين الجميع أسهم في المساعدة الغذائية وبعض الأدوية, أما تنظيف الحي ففوق طاقة هؤلاء الضحايا. مع الأخوات كنا نسير وأقدامنا تغوص في الطين والذهول يجمعنا هل هذه أحياء في وطننا؟ ونقارنها بأحياء الشمال حيث الميادين الواسعة والأشجار والشوارع المضاءة ولا أثر للمياه بعد أي مطر!
هذه صفحة واحدة من صفحات المأساة التي فتحتها كارثة جدة, وعن حي واحد فقط من الأحياء العشرة التي طالتها الكارثة التسونامية, ولن أكرر وصف ما تم بثه عبر الإنترنت أو عبر بعض القنوات.
الصفحات الأخرى التي فتحت هي ملفات الفساد الذي كان سببا رئيسا لهذه الكارثة في جدة, والتي ستتكفل اللجنة التي تشكلت بأمر خادم الحرمين الشريفين لتقصي أسبابها, التي نأمل أن تؤدي مهمتها (بالمصداقية والشفافية المطلوبتين) ومحاسبة كل من له دور في تفاقم هذه الكوارث, فالقضية لا تتعلق بأموال هدرت فقط كما حدث في هوامير الأسهم وما سببته من كارثة مالية سقط فيها المواطن الذي إلى الآن يرزح تحت كاهل تسديد أقساط البنوك, ولكن تتعلق أيضا بأرواح البشر والأبرياء ولولاها لما صدر قرار خادم الحرمين الشريفين.
الجميع هنا في جدة على وجه الخصوص يعلمون أن هناك فسادا إداريا في تنفيذ المشاريع ليس في أعمال الصرف الصحي أو تصريف مياه المطر أو بناء الجسور أو الادعاء بتقديم خدمات وهمية للمواطنين فقط, بل في جميع القطاعات الخدمية, الجميع كان يخشى أن يتحدث, لأن الحديث عن الفساد من دون بينة يعد قذفا! نعم هذا صحيح ولكن إذا تحدثنا بالمنطق وبما لدى الجميع من معلومات ذكر بعضها المهندس يحيى كوشك عضو الهيئة السعودية للمهندسين في لقائه في قناة ''دليل'' مساء السبت يدعم ما نعرفه عن مشاريع الأمانة طوال 30 عاما.الجميع أو الأغلبية يستوعبون ما يتم تناوله من قصص عن صفقات للرشا تحدث هنا وهناك! وعن إهمال ولا مبالاة اتسمت بها أعمال الأغلبية من القطاعات والأجهزة الحكومية التي سيطولها التحقيق كي يكون (شاملا وحازما ونافذا), التي تضرر منها المواطن والمقيم والزائر لهذه المدينة, من غرق بسبب هذه الكارثة انتقل إلى دار البقاء شهيدا - إن شاء الله - وتاركا حقه في رقابنا ورقاب أعضاء اللجنة التي عليهم (مسؤولية جسيمة لا بد أن تنجز بما ننتظره من مسح شامل لكل من تسبب الآن وسابقا في هذه الكوارث) التي لن تتوقف عند هذه, بل هناك خطورة قائمة إلى الآن من بحيرة الفساد ومن نتائج هذه الكارثة صحيا على السكان والبيئة لن تفرق بين ساكني الشمال أو الجنوب أو الشرق والغرب, بل هناك خطر محتمل تحدث عنه المهندس يحيى كوشك ربما يطول أحياء الشمال أيضا. عندما صدر منذ عام تقرير مؤشر مدركات الفساد لعام 2008 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية, وذكر أن السعودية حققت المرتبة 80 دولياً والثامنة عربياً وخليجياً في مؤشر إدراك الفساد, ما الذي قمنا به كي نحاسب من كانوا أسباب هذا الفساد؟ خصوصا أن المؤشر يقيس مدركات الفساد الصادر عن منظمة الشفافية الدولية مستويات الفساد في القطاع العام في بلد معين، وهو مؤشر مركب يعتمد على الدراسات الاستقصائية المتخصصة والمسوحات التجارية. ويحتوي مؤشر عام 2008 على 180 بلداً، مرتبة على مقياس من صفر (فاسد جداً) إلى عشرة (نظيف جداً).
ويسلط تقرير منظمة الشفافية الضوء على الصلة بين الفقر وفشل المؤسسات والابتزاز. كما يشير إلى وجود بلدان أخرى تراجعت مكانتها على مؤشر مدركات الفساد لعام 2008 وإلى تعرض قوة آليات الرقابة للخطر في الدول الأكثر ثراء.
وتوضح نتائج المؤشر إلى أنه على الرغم من الفساد وانعدام الشفافية اللذين لا يزالان يشكلان تحدياً أساسياً أمام تنمية المنطقة، فإن النقاش المتزايد بشأن قضية الفساد يسير ببطء لكن بثبات نحو خطوات الإصلاح الهيكلي، وإن مسألة مكافحة الفساد في القطاع العام زادت زخماً وشرعية، وتتم الآن مواجهة ذلك بوضوح باعتباره العقبة الرئيسة أمام التنمية.
وفي مجال تعزيز الرقابة والمساءلة ذكر التقرير أنه في البلدان المرتفعة أو المنخفضة الدخل على حد سواء، يتطلب الأمر تحدي كبح جماح الفساد من قبل مؤسسات مجتمعية وحكومية عاملة.
وإذا أضفنا إلى نتائج هذا المؤشر ما جاء في تقرير إنجازات هيئة الرقابة والتحقيق في المملكة ونشرته الصحف في 25 /10/2009م عن 625 قضية رشوة في العام الماضي! وكان هناك أكثر من مقال يتساءل كتابه, كيف وصلنا إلى هذا الرقم؟ ولماذا لم يردع نظام المشتريات الحكومية الفاسدين؟ وأين نظام مكافحة الرشوة عن مساءلتهم؟! وهل بات القطاع العام مرتعا خصبا للفساد الإداري واستغلال النفوذ؟! مع الأسف هذا ما يشير إليه وجود 625 حالة رشوة!
وقالوا طالما إنه من أولى واجبات هيئة الرقابة والتحقيق دعم النزاهة والشفافية في المجتمع عموما وفي القطاع العام خصوصا, فلماذا لم تنشر تفاصيل القضايا والتشهير بأسماء هؤلاء الفاسدين وإعلان العقوبات المنسوبة إليهم حتى يكونوا عظة وعبرة لكل من تسول له نفسه الاتجار بالنفوذ والسلطة والانخراط في جرائم الفساد الإداري في القطاع العام؟!
لمحاربة هذا الفساد نجد أن هناك قرارا خاصا بالاستراتيجية الوطنية لحماية النزاهة ومكافحة الفساد, حيث وضحت أن الفساد مفهوم مركب له أبعاد متعددة وتختلف تعريفاته باختلاف الزاوية التي ينظر من خلالها إليه, فيعد فسادا كل سلوك انتهك أياً من القواعد والضوابط التي يفرضها النظام كما يعد فساداً كل سلوك يهدد المصلحة العامة، وكذلك أي إساءة لاستخدام الوظيفة العامة لتحقيق مكاسب خاصة هذا في القانون الوضعي, أما في الشريعة الإسلامية فالفساد كل ما هو ضد الصلاح قال تعالى: ''ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها'' وقال تعالى: ''إن الله يأمركم أن تؤدوا الأمانات إلى أهلها وإذا حكمتم بين الناس أن تحكموا بالعدل إن الله نعما يعظكم به إن الله كان سميعاً بصيراً''.
وظاهرة الفساد كما وضحتها الاستراتيجية تشمل جرائم متعددة مثل: الرشوة والمتاجرة بالنفوذ، إساءة استعمال السلطة، الإثراء غير المشروع، التلاعب بالمال العام واختلاسه أو تبديده أو إساءة استعماله، غسل الأموال، الجرائم المحاسبية، التزوير، تزييف العملة، الغش التجاري... إلخ.
إذا من محتوى بيان خادم الحرمين الشريفين نأمل في مرحلة من الحرب الحقيقية علي الفساد. وهذا ما ينتظره كل مواطن منا سواء من فقد الغوالي غرقا أو تشرد عن حيه أو تهدم سكنه وفقد ممتلكاته, أو من يخشى حدوث كارثة بيئية قادمة, إذا تحرك السد الاحترازي المهلهل مثل من أنجزه كي تغرق بحيرة الفساد البقية من أحياء يعيش سكانها الآن تحت رحمة الرحمن, طالما أن البلاغات الوقائية ليست صحيحة وفي الواقع نحن فقدنا الثقة بأي بيانات نسمعها أو نقرأها, فمن يعيد الأمن إلى نفوس الجميع بعد الله - سبحانه وتعالى؟