في شوارعنا .. أزمة مرور أم أزمة سلوك ..؟
تلقيت على بريدي الإلكتروني رسالة تضمنت صورتين ومعهما تعليق واحد يوجز المعنى يقول «والله فرق»، وكل منهما على نقيض الأخرى، الصورة الأولى لطريق في دولة متقدمة توضح كيف التزم السائقون الذين يريدون الانعطاف يسارا بمسارهم الأيسر وهم ينتظمون خلف بعضهم بعضا في طابور منظم طويل كحبات المسبحة، فيما ظهر المساران الأوسط والأيمن سالكين تسير فيهما السيارات التي تريد الاستمرار فقط، فبدا المشهد منظماً ومتناسقاً وجميلاً، أما الصورة الثانية وهي من عندنا فتصور كيف اختلط الحابل بالنابل في طريق فيه منعطف مطابق تقريبا لما في الصورة الأولى، المشهد صور التزاحم والتسابق على النفاذ والانعطاف إلى درجة أن الطريق كله تعطل، فالمسارات الثلاثة تكدست بالسيارات واختلط فيها من يريد الانعطاف مع من يريد الاستمرار، مشهد غاية بالفوضوية والأنانية والتخلف، ففي الوقت الذي تبرز فيه الصورة الأولى مظهرا حضاريا وأخلاقيا واحتراما لأنظمة المرور والالتزام بها دونما فهلوة ولا تشاطر فج، تكشف الثانية عن وجه التخلف الحضاري وتردي سلوكنا المروري وانعدام احترام حقوق وأحقية الآخرين وأنظمة المرور.
صورة سلوكنا المروري الفوضوي هذه ليست استثناء، بل هي ما نمارسه يومياً في شوارعنا فعلا، فالفوضوية في استخدام الطرق باتت هي القانون المستخدم، وليس الخروج عليه، فبكل أسف، أصبح القانون المروري موجودا فقط على الورق، أما المطبق على الأرض فهو قانون «من سبق لبق»، فالمسارات مثلا لا تحترم ولا تستخدم لأغراضها، فتحديد المسارات ليس من أجل جمالية الشارع الشكلية، بل لجمالية صورته النظامية كما تعكس الصورة الأولى حين يلتزم باتجاهاتها وبعدم الخروج عليها، وهذا في الحقيقة يعبر عن أزمة سلوك لا أزمة مرور.
رجل وزوجته ومعهما خادمة، كانوا يسيرون بسيارتهم في أمان الله في طريق عريض وطويل ما يعرف بالسريع، وشاب غر سلمه أبوه سيارة سريعة وأطلقه في الشوارع يلهو ويعبث بحياته وحياة الناس في غياب للضبط المروري وعلى الرغم من نظام «ساهر» الذي سمعنا به ولا نراه، كان في اللحظة نفسها يأتي من الخلف، وحسب رواية شهود عيان، كان ينطلق بأقصى سرعة وهو يتلوى بين المسارات بحركات بهلوانية غير مدرك خطورة ما يفعله، فجأة فقد الشاب السيطرة على سيارته وكتب الله أن يصطدم وبسرعته المفرطة بسيارة ذلك الرجل من الخلف، وكانت النتيجة وفاته وزوجته وخادمتهما على الفور، بينما أصيب الشاب إصابات شديدة ومميتة لم تبقه طويلا وتوفي وهو ينقل إلى المستشفى، هذا حدث فعلا، وليس مشهداً تخيلياً للتخويف والتحذير من خطر السرعة، حدث في منتصف الشهر قبل الماضي في مدينة جدة وتحديداً في طريق المطار المتجه شمالاً، وصور السيارتين كما نشرتهما الصحف تبين عنف ودموية الحادث، وكيف أن قوة الارتطام عجنت حديد السيارتين عجنا بما يوضح أسباب الوفاة الفورية لهم جميعاً - رحمهم الله، فهل هذه أزمة مرور أم أزمة سلوك ..؟
تقف عند إشارة مرور ضوئية في مسارك النظامي، لكنك ترى من يأتي من خارج المسار ويقف بمحاذاة السيارات، وما إن تضيء الإشارة ضوءها الأخضر حتى يدخل على السيارات الأخرى مغتصبا حقها في المرور، ولا يهتم أو يخجل من أن يكون سببا في تعطيل الحركة وإرباكها، ومثله ذاك الذي يسابق الإشارة الحمراء ويعبر غير مبال بمن يسير من الجهة الأخرى، أو من لا يقنع بأخذ دوره في صف السيارات عند الإشارات، فيتسلل يمنة ويسرة حتى يتقدم كل السيارات ويقف متخطيا حتى خط المشاة، أو من ينشغل بالحديث بالهاتف النقال وهو يقود سيارته فيسير بها ببطء شديد فيعطل من خلفه بل قد يتسبب بحوادث في الطرق السريعة، أو من لا يبالي بالوقوف خلف السيارات الواقفة حتى لو أشغل نصف الطريق وضيق المرور فيه، وشاهدوا فقط ما يجري من تصارع وتشابك داخل الميادين وهو ما اضطرنا إلى وضع إشارات ضوئية داخلها في سابقة غير مطبقة في كل العالم، كل هذه الممارسات والتصرفات التي لم تعد استثناء بل قاعدة, هي بكل تأكيد تعكس ظاهرة أزمة في السلوك وليس في المرور.
على الرغم من مسؤولية جهاز المرور المباشرة, المعني بتطبيق النظام, عن تفشي هذه الظاهرة السلوكية السلبية في شوارعنا، إلا أن هناك جانبا مهما من المسؤولية يقع على مستخدم الطريق نفسه، فليس مطلوبا ولا مفروضا وضع جندي مرور عند كل تقاطع وزاوية، فهناك سلوكيات طبيعية تتوافق مع كوننا بشرا نعي ونعقل ولسنا في حاجة إلى عصا الراعي مثلا، ودور جهاز المرور يقتصر على التدخل لمنع تجاوز ومخالفة صريحة لأنظمة المرور، وهو ما يؤخذ عليه خصوصا في مدينة جدة التي تشهد وبكل أسف انتشارا لسوء السلوك المروري من سرعة مفرطة وتجاوزات ومخالفات متعددة الأشكال، وهذه المخالفات وبكل ألوانها وأشكالها لا تمارس في الخفاء أو بعيدا عن الأعين، بل تفعل جهارا نهارا وفق قاعدة «إذا لم تستح فاصنع ما شئت».
لا جدال في أن تصميم كثير من شوارعنا الهندسي يفتقد البعد الفني للمرور، ولا يساعد على تحقيق انسيابية الحركة، بل يسهم في تأزمها، إلا أن هذا ليس عذرا لما يجري في شوارعنا من خروقات فاضحة للسلوك المروري السوي، التي هي مسبب رئيسي لهذه الاختناقات والازدحام في شوارعنا، فالنظامية هي الحل الأجدى من الفوضوية، والنظامية لا تأتي إلا من خلال تطبيق كامل ودقيق وصارم لأنظمة المرور، وهذا بكل أسف ما نفتقده، فالقاعدة المعمول بها هي ما لم تؤد المخالفة إلى حادث فلا يلتفت إليها، ويثبت ذلك أن كل هذه المخالفات تجري تحت أعين وبصر رجال المرور في شوارعنا إلا فيما ندر.