وقفات مع الموازنة العامة للدولة

من النِعم العظيمة التي حباها الله لنا أبناء هذا الوطن الكريم، وجود قيادة حكيمة وواعية تُدرك أبعاد كثير من القضايا السياسية والاقتصادية التنموية والتي تمس كيانها ومنها التقلبات التي قد تطرأ غالباً لأي بلد يعتمد على مصدر واحد وناضب للدخل كالنفط. وقد أخذت الدولة - رعاها الله - على عاتقها العمل الجاد من أجل تنويع مصادر الدخل الوطني كي تكون مملكتنا في مأمن من تقلبات أسعار النفط التي تحكمها عوامل سياسية واقتصادية متنوعة ومتشابكة ومختلفة الأسباب والمصادر. وبالرغم من الجاذبية الكبيرة لأرقام الموازنة العامة للدولة وما تحمله من معان ومضامين تنموية تتمثل في الحفاظ على مستويات عالية من الإنفاق، إلاّ أن لنا وقفات مع موازنة الخير الجديدة على شكل ومضات قصيرة.

الوقفة الأولى
في الأسبوع الماضي صدرت الموازنة العامة للدولة وفي ثناياها بشائر الخير، حيث قُدرت نفقاتها بحدود 540 مليار ريال مع توقعات لإيراداتها بما مقداره 470 مليار ريال، أي بعجز متوقع بحدود الـ 70 مليار ريال، أما الإنفاق التنموي فقد ارتفع بما يعادل 14 في المائة مقارنة بميزانية عام 2009م. بيد أن العجز الحاصل في موازنة عام 2009م تمت تغطيته بالكامل والمُقدر بنحو 45 مليار ريال من خلال الفوائض المالية المتراكمة من سنوات سابقة والتي تلت الزيادات الفلكية بأسعار الخام. ما رشح من أرقام يؤكد على تصميم الدولة في الحفاظ على رفاه المواطنين من خلال الاستمرار والتوسع في المشاريع التنموية بعامة من بنى تحتية واتصالات وتعليم وصحة والتي أخذت النصيب الأكبر لإدراك صانعي القرار أهميتهما في بناء المجتمع التنموي. وقد يكون من الموضوعية علاج العجز المُتوقع في الموازنة من خلال تخفيض الإنفاق الحكومي ليتواءم مع الإيرادات الحكومية، إلا أن الدولة - أيدها الله - ومع ثقتها القوية باقتصادنا الوطني ارتأت مواصلة النهج الإنفاقي التنموي للحفاظ على المكتسبات الوطنية.

الوقفة الثانية
في أجواء المحافظة على معدلات الإنفاق المرتفعة على المشاريع التنموية، والثقة من قبل ولاة الأمر بالجهات التنفيذية، قد يكون من الموضوعية الاهتمام عملياً ببعض المُقترحات الهادفة والتي تُساعد على الحد من التجاوزات الإدارية والقانونية والتي سيترتب عليها توفير المزيد من المال العام. من الآراء التي طُرحت حول معالجة ارتفاع تكاليف المشروعات العامة، تأسيس هيئة أو لجنة مركزية عُليا هدفها تحديد أولوية المشاريع الحكومية الضخمة جميعها واللازم تنفيذها على أن تبدأ بالأهم فالمهم وعلى من تتم الترسية بشروط عادلة للطرفين، مع الأخذ في الاعتبار شروط من تنطبق عليه ومدة التنفيذ مع التأكيد على التنفيذ الجاد من خلال المقاول الرئيس بحيث يتم تضييق الفُرص على العقود من الباطن لما يترتب عليها من سوء في التنفيذ وهدر للمال العام، بينما تكون هناك لجان فرعية في كل وزارة هدفها التدقيق على المشاريع الصغيرة الخاصة بكل جهة والمُزمع تنفيذها حسب الأهداف المرسومة والتأكد من مطابقتها للمواصفات الموضوعة.

الوقفة الثالثة
يذهب كثير من الاقتصاديين إلى تعريف الموازنة العامة، على أنها تقدير تفصيلي لكل نفقات الدولة وإيراداتها لمدة عام، وعليه فقد اكتسبت الموازنة العامة للدولة أهميتها من كونها أداة لتوجيه الاقتصاد الوطني بمختلف مكوناته القطاعية والتأثير فيها، إضافةً إلى تأكيدها على الدور الحيوي للمواطنين في توجيه هذه السياسات العامة والرقابة عليها، فهو يعطينا فكرة عن حجم الإيرادات والنفقات لكافة القطاعات ومقارنتهما مع الفترات الماضية ونسبتهما إلى الدخل الوطني، إلا أن الشيء المهم هنا، هو زيادة الثقة بها من خلال اتباع المعايير السليمة والدقيقة في التقدير حتى تأتي الموازنة العامة قريبة جداً من التقديرات. من جهة ثانية، فالموازنة العامة هي تقدير وبذلك تختلف عن الميزانيات العامة الأخرى كونها تكتسب صفة الإلزام بالتنفيذ بعد موافقة السلطة التشريعية، بينما الميزانيات تشمل أرقاما حقيقية عن فترات ماضية بحيث توضح المراكز المالية لهذه المؤسسات أو المشاريع. وبالمُقارنة، فميزان المدفوعات عبارة عن سجل لحقوق الدولة وديونها خلال عام، وتنبع أهمية الميزان من أن المعاملات مع البلدان الأخرى ستعكس متانة الاقتصاد الوطني، حيث إنه يعكس حجم وهيكل الصادرات والواردات وحجم الاستثمارات ومستوى الأسعار... إلخ، كما أنه يُبين متانة سعر الصرف من خلال العرض والطلب على العملة الوطنية، ويُوضح مدى فاعلية السياسات الاقتصادية الداخلية من إعانات وضرائب على سبيل المثال، كذلك فالمعلومات الموجودة فيه تعتبر مهمة للمؤسسات المالية والمصرفية ومُفيدة للسلطات الحكومية وقدرتها على توجيه التجارة الخارجية على المستوى السلعي أو الجغرافي، بالإضافة إلى المركز المالي للدولة مقارنة بالبلدان الأخرى. ومن هنا، يتضح أثر حالة ميزان المدفوعات من عجز أو فائض على الموازنة العامة للدولة، فانخفاض الصادرات من النفط مثلا، لا شك أنه سيؤثر سلباً في إيرادات الدولة ومن ثم نفقاتها.

الوقفة الرابعة
إن الأساس الموضوعي لاستخدام مصادر تمويل بديلة لعلاج عجز الموازنة العامة للدولة، هو المحافظة على ديمومة المشاريع التنموية الهادفة لتوظيف أبنائنا خاصة في ظل التقلبات الحادة لأسعار النفط، الضبابية التي تلف الأوضاع الاقتصادية العالمية، وعدم وجود بدائل قوية لإيرادات النفط، وبالتالي قبل التفكير في مشروعية البحث عن مصادر لتمويل عجز الميزانية، السعي الحثيث من قبل الجهات التنفيذية على التقيد بتوجيهات ولاة الأمر - حفظهم الله - الداعية إلى تغليب المصلحة العامة على الخاصة بحيث يتم ترتيب أولويات التنفيذ الدقيق والحازم للمشاريع الإنتاجية والابتعاد عن الترفيهية قدر الإمكان. ومن هذا المُنطلق فالمهم ليس حصيلة الضرائب إنما توجيهها الوجهة السليمة عندها ستكون ثمرتها يانعة يراها المواطن أمام عينيه خاصةً عند استنفاذ كافة الوسائل والطرق للمحافظة على عوائد عادلة للنفط كمصدر رئيس للدخل.

الوقفة الخامسة
لا يتناطح كبشان في أن النتائج الحالية الواقعية للأزمة المالية العالمية تُؤكد أن هذه الأزمة ستترك بصمات واضحة على الاقتصادات العالمية بما فيها اقتصادنا الحقيقي ومنها انخفاض الموجود من النقد الأجنبي بسبب انخفاض أسعار النفط وكميات الإنتاج، وإن استمر الحال - لا قدر الله - فستكون السلطة النقدية في وضع حرج من أجل إعادة التوازن إلى ميزان المدفوعات، مع العلم إنه وفي خلال السنوات الخمس الماضية تمتع اقتصادنا بكميات وفيرة من النقد الأجنبي والتي تقدر بأكثر من 4.1 تريليون ريال. السؤال الجدير بالإجابة هل استمرار أسعار النفط حول مستوياتها الحالية أو أقل ستُؤثر في مصادر تمويل العجز في الموازنة وبالتالي تُشكل مصدر توتر لاقتصادنا الوطني على المديين المتوسط والطويل؟ قد يكون من الموضوعية الإجابة بتأكيد الدور الرقابي الإداري الصارم على متابعة وتنفيذ الموازنة وبما يتماشى مع الأهداف الحقيقية المرسومة، ومع ذلك وعلى المدى القصير سنستخدم ما ادخرناه إذا كانت لدينا الرغبة في الحفاظ على مستويات الإنفاق الحالية أو قريباً منها، لكن في حالة عدم تمكننا من تقليص الإنفاق ليكون في متناول الإيرادات فسنكُون في وضع لابد فيه من التمويل الضريبي أو الاقتراض المحلي.

الأكثر قراءة

المزيد من مقالات الرأي