الإطار الاستراتيجي في عالمنا: ظواهر حاكمة
تناولنا في مقالات سابقة عددا من الظواهر الحاكمة في عالمنا المعاصر. أولها انهيار العوائق والعقبات، وثانيها الجبروت الشديد لوسائل الإعلام ودخولها كلاعب مهم في تسيير أمور عالمنا. وكي نستكمل الإطار الاستراتيجي الذي نعيشه نقف اليوم أمام ظاهرة ثالثة هي تقليص الوقت والمسافة والوصول إلى الأهداف المرجوة من حصول على معلومات أو تحقيق لاختراقات علمية، فضلا عن تحطيم الأسعار في عالم المخترعات الجديدة بصورة رهيبة بسبب التنافس. ففي نهاية القرن الـ 20 كان الوقت الذي يستغرقه المنتج سواء كان الوقت الذي نجني فيه الثمار أو الوقت الذي يصبح فيه المنتج بلا قيمة أو الوقت المطلوب لإنتاج بديل يتقلص باطراد في أعداد كبيرة من الصناعات من الأحذية إلى الإلكترونيات إلى وسائل الترفيه في عالم الإعلام. وبقيت صناعة الخدمات مثل مجال الاستشارات الإدارية وتقنيات المعلومات واستنباط مجالات جديدة للعمل، بقيت مرتفعة التكلفة.
ومع السنوات الأولى من القرن الـ 21، انهارت القيمة الزمنية لهذه الصناعات بسبب زيادة الإنتاج والتنافس المستعر في الأسعار ودخول دول الإنتاج الأرخص مثل الهند والصين إلى عالم الإنتاج والمنافسة. وقد أدى انخفاض أسعار المنتجات والخدمات إلى زيادة في قدرة الناس على اقتناء أشياء لم يكونوا قادرين على شرائها من قبل. وإذا أخذنا التلفزيون والهاتف والهواتف النقالة والأجهزة المنزلية على سبيل المثال نجد أنها قبل الحرب العالمية الثانية لم تكن متاحة لأحد، وفجأة أصبحت الآن في متناول الناس جميعا في كل بلاد العالم.
إن قدرتنا على التحرك السريع من خلال عملية الابتكار والاختراع والاستبدال – أي وجود سلعة أفضل تجعلنا نشتريها بدلا من أخرى – أصبحت قوية ومؤكدة. وهناك حقيقة اقتصادية مهمة هي أننا ندخل الآن مرحلة زيادة الاتجاه نحو النوعية المتميزة، وذلك بسبب الانخفاض المستمر في الأسعار. ونتيجة لذلك فإن فرص الدخول في مشروعات مربحة أصبحت أقل من ذي قبل، وهكذا نقف في مواجهة نقيضين: فنحن نقف على حافة عصر تقليص الوقت والمساحات وعصر تقليص القيمة.
أما العوائق الجغرافية فقد تحطمت بفضل الأسعار الدولية. فالقوى العظمى عبر التاريخ نجحت في اجتذاب التجار والفنانين والعمال المهاجرين. والولايات المتحدة الآن مثل الإسكندرية وروما في الماضي السحيق ولندن في الماضي القريب كانت عنصر جذب للمغامرين والرواد وطلاب القوة والشهرة والثروة. وقد تقلص الوقت المستغرق في السفر من إنجلترا إلى نيويورك من 18 يوما عام 1830 باستخدام السفن البخارية إلى ست ساعات ونصف بالطائرة. وفي السنوات الأولى من القرن الـ 21 سافر نحو 540 مليون إنسان سنويا إلى أماكن كانت تُعتبر في الماضي مقتصرة على الأثرياء – بل بقوا في هذه الأماكن أكثر من أسبوع. ولم يكن لدينا في أي وقت مضى تلك القدرة على التحرك في أنحاء المعمورة للترفيه أو التجارة. وفي الوقت نفسه لم يكن لدينا من قبل قدرة مماثلة على التحرك السري وبسرعة من أجل إنجاز مهام تتعلق بالحرب والإرهاب أو تحطيم البيئة.
وهكذا نقف أمام نقيضين: عصر اليسر والسهولة والوصول إلى ما نريد وعصر المشكلات والابتلاءات الدولية.
ونقف أمام ظاهرة كثافة السكان، حيث زادت معدلات السكان بشدة على امتداد التاريخ. ومن المعتقد أن أكبر مدينة في عام 3100 قبل الميلاد كانت مدينة منف (البدرشين حاليا) المصرية وكان عدد سكانها 30 ألفا، وفي عام 612 قبل الميلاد كانت مدينة بابل أول مدينة تتخطى حاجز الـ 200 ألف. وفي عام 637 كانت بغداد عاصمة العراق أول مدينة يبلغ عدد سكانها المليون. وفي عام 1825 كانت لندن صاحبة الرقم القياسي، حيث بلغ عدد سكانها خمسة ملايين. وفي عام 1925 ذهب اللقب إلى نيويورك عندما أصبح عدد سكانها عشرة ملايين وحطمت طوكيو الرقم عام 1965 عندما بلغ سكانها 20 مليونا.
في عام 1800 كان 3 في المائة فقط من سكان العالم يعيشون في الحضر وارتفع هذا العدد عام 1900 إلى 14 في المائة. وفي عام 1950 بلغ عدد سكان الحضر 30 في المائة. وفي عام 2000 أصبحت النسبة 47 في المائة يعيشون في مراكز حضرية. أما كثافة الثروة فقد ارتفعت بشدة، حيث إنه مع نهاية القرن الـ 20 كانت أغنى 20 دولة تمتلك أكثر من 50 ضعف ما تمتلكه الـ 20 دولة القابعة في قاع جدول الثراء.
وفي مطلع القرن الـ 21، استمر هذا النموذج في الزيادة السكانية ذلك لأن شهية المدن الثرية لاستهلاك العمالة لم يمكن مواجهتها سكانيا. إذ كانت توقعات الدول المتقدمة في القرن الـ 20 مثل اليابان وألمانيا وفرنسا والمملكة المتحدة والولايات المتحدة أنهم يحتاجون إلى ملايين المهاجرين حتى تصل فاعلية مدنهم إلى قمتها. ومع فجر القرن الـ 21 بدأت دول جديدة مثل الهند والصين تشعر بأن ثروة الدول القديمة بدأت تتدفق عليها، ولذلك انهمرت الهجرات على مدنها الرئيسة، وأعلنت الصين أنها أنشأت 50 وادي سيليكون، منها 12 واعدة وحظيت بدعم حكومي يراوح بين 50 و70 مليار دولار لتحديثها وجعلها مواكبة لآخر درجات التقدم. وإضافة إلى 60 مليارا هي قيمة الاستثمارات السنوية الأجنبية في أراضي الصين، فإن معنى ذلك أن هذه الوديان أصبحت تستقطب المواهب.
وهذه الوديان الصينية تهدد الوديان الأمريكية واليابانية والكورية والسنغافورية، بل الجهود الألمانية والإنجليزية في هذا الصدد. وهكذا فإننا أمام نقيضين، فنحن نقف على حافة عصر وديان السيليكون وعصر المنافسة المدمرة لهذه الوديان.